أميمة عبد الله
Omimaalabady- @hotmail.com
خروجى فى العاشر من اغسطس من عام 2003 لم يكن من أجل الشعارات التى كانت تنادى بها حملة إغاثة لمعسكر كلمه ، كانت أخبار الحرب تملأ الدنيا ، إبادة جماعية ، اطفال يستخدمون كدروع بشرية ، شيوخ يموتون من البرد والجوع ، عمليات نهب مسلح ونساء يغتصبن فى وضح النهار ، كان ثمة ما هو مخفى وراء الروح ، هذه الكلمات هى اول ما بدأت به رسالتى الأولى اليه ، كنت أكتب اليه بصدق عن موجة الوله التى أصابتنى عندما سمعت صوته بدء عبر الهاتف ثم عندما رايته ، كان قائد الحملة ومنظمها وهى تتالف من خمسة رجال باستثنائه.
> عند ما صافحنى قررت ساذهب معهم ، كان هذا الرجل محل تقدير واحترام من الجميع يتحدث كامير ويعمل كثور ويمشى كقط ، ولديه من الصبر ما يكفى ليسمع الجميع.
> تبنيت كل الشعارات التى اطلقتها الحملة من أجل الذهاب معه ، رفض لكنه تحت وطأة الحاحى لم يكن امامه إلا القبول ، كنت المرأة الوحيدة بينهم ، ذهبت معهم يدفعنى الحب لا الشفقة على اولئك النازحين ، احيانا نقطع مسافات طويلة استجابة لنداء ما دون أن نعلم بأننا ذاهبون لتلبية نداء أخر.
> الطريق بالغ البهاء ، كنا منقسمين على ثلاثة عربات ، الخضرة الصامته تحيط بنا ، عندما وصلنا بداية الطريق المودى إلى المعسكر كان الوقت بعد زوال الشمس وقبل الغروب ، الزوال شديد البهاء فى تلك المناطق ، السماء ملبدة بالغيوم ن الارض معطاءة والهواء معبىء برائحة التراب ، الطريق طويل ومتعرج ، كنا نسير ببطء الدقائق تمضى كأنها ابدية ، قرى مهجورة ، بيوت مهدمة قصة مأساة تحكى مع الزمن ، بقايا اسوار تتحدث بلغة الخراب ، قفزت صورة الماضى دفعة واحدة وأنا اتكىء على قفا السيارة التى تنقلنا ، لقد توقفنا للصلاة ، كنت غارقة فى لسكون الاله المقدس نبتهل وسط صمت الخضرة.
> سرنا طول الليل ، كانت ليلة مظلمة وموحشة ، كنت محتمية به بذاك الحبيب الذى تعلقت به من أول لقاء قريبة منه اذداد ثقة به مع كل تقدم لنا . مع الفجر الأول قال سائق سيارتنا لقد اقتربنا من المعسكر وقبل أن يكمل حديثه رأينا دخانا يعلو فى الجو منتشرا كأفاعى تتلوى ، اسرعنا ، عندما وصلنا كان الصراخ لا يحتمل الكل مهلوعا ويبحث عن مخرج ، النساء يتراكضن فى موجات عاتية حاملات الاطفال ، صرخات الاستغاثة المجنونة تذيد من الهلع وتبعث القشعريرة فى البدن ، أبقى عادل اللوارى المحملة بعيدا عن المعسكر ، ذهبوا جميعا لمساعدة الرجال فى اخماد النار كانوا يعملون بسرعة ، أغلبهم لايرتدى سوى السروال لقد كان الحريق فى ساعات الصباح الأولى حاصر الحريق نصف مساكن المعسكر كان الحريق عظيما والدخان كثيفا ، كل ما بالمعسكر يساعد على تكاثر السنة اللهب ، الحصير ، المشمعات المصنوعة من مواد بترولية ، سيقان الشجر الجافه ، بعض الرجال كانوا يحاولون تنظيم عملية اخلاء المعسكر لكن أصواتهم الآمره كانت تبتلعها صيحات الموت والألم وبكاء الأطفال المربوطين إلى ظهور امهاتهم ورعب النساء ، كان الصخب يصم الأذان لم ار أشجع من الامهات فى ذلك اليوم طاقة عجيبة مدت إليهم من السماء لحماية أطفالهن ، كن مجنونات يدفعن الرجال بعيدا رغم دخان الحريق يتوغلن ويبحثن عن الأطفال المتخلفين الضائعين ليسحبوهم خارج المعسكر الهواء عصيا على الجميع ، الرياح تساعد على إنتشار النيران ، كان مشهداٌ مرعباٌ ومتوعداٌ ببؤس عظيم ينتظر ساكنى المعسكر ، احترقت جلود الرجال باشعة الشمس وهم يعملون بخفة شديدة ، أغلب الضحايا كانوا اطفالاٌ وشيوخ اقعدتهم المفاجأة وحجّمت خطواتهم ، لم استطع روية أى من افراد حماتى وسط تلك الفوضى .. كنت اساعد بمحاولة تهدئة روعة النساء لقد كن اكثر المتضررين بجلودهن المحروقة وعيونهن الدامعة ووجهوهن التى غطاءها الغبار والرماد واسودت بالهباب ، بؤسهن كان عميقا حتى أن رأفتى تجاه اولئك النسوة ظلت لصيقة بى لأعوام كثيرة برائحتهن المميزه المخلوطة برائحة الخوف والعرق الكريه ، أصواتهن مختنقة وكأنها قادمة من أعماق هاوية الآه محبوسة فى صدورهن وهن منكمشاتعلى أنفسهن ، لقد قضى الجوع على ملامح الحياة عندهن.
> أكثر من نصف المعسكر اصبح كومة رماد ، أشلاء محروقة داس عليها البعض ، روؤس حاسرة زال عنها غطاءها ، غبار محتشد بالرماد ورائحة اللحم المحروق . ذهب الحريق بالقليل المدخر لم يبق لديهم حتى إناء يتسولون به صدقة المنظمات . قضينا وقتا طويلا نحملق فى الخراب الذى الحقه الحريق بالمعسكر ، أنا بعينين دامعتين وهو بقلب ينبض الما . لم اكن اعرف احداٌ بالمعسكر لكنى فجأة احسستهم جميعا اهلى ، لىّ صلة وجع معهم نسيت حبى الذى دفعنى لخوض الرحلة .
> ستسال لماذا اكتب اليك كل تلك التفاصيل وقد كنتها معى ، ساقول لك رغم حبك الذى مازال يسكننى ، لتعرف لما أنا فضلت البقاء مع اهل كلمة على العودة معك إلى الخرطوم ، لقد صار قلبى لأهلى الجدد 0 كنت احدث نفسى بشقاء اولئك النازحين ، اتذكر تلك الطفلة التى شدت على فستانى عندما كنت تراقبنى من البعد ، كانت فى الرابعة من عمرها ، وسخة يغطيها الغبار ، شعرها منفوش إنحنيت عليها ، حملتها بين يدى لم تكن تبكى ، عيناها جامدتين مسلتطين على المعسكر
> - هنا كنا نسكن مع أمى
> أشارت إلى كومة الرماد . لم أجد كلمات مناسبة لموآساتها ، ماذا أقول وأنا الممتائة بالحزن والشفقة ، أعطيتها قطعة خبز كانت بيدك . أتذكر ؟
> لكنها قالت أريد أمى
> - حسنا لنذهب إليها
> هزت راسها مائلة به إلى الوراء قليلاٌ
> - ماتت فى الحريق
> قالتها دون دمع ، قالتها ببساطة ، اقتربت منى امرأة تسعينية تتكىء على عصا قالت لىّ اتركيها إنها إبنة بنتى
> - دعيها لىّ لأنظفها
> سالتنى لماذا ابقيتيها معك
> - اريد موأساتهم جميعا فى هذه الطفله
> ضممتها إلى صدرى بقوة ساعدتنى كثيراٌ فى ضبط دموعى ومنحى بعض الهدوء ، هيمن داخلى صمت التوابيت لقد غمرنى الأسى
> تحلق الرجال حول عادل كانوا متعبين مسودة وجوههم بالهباب ، ثيابهم وسخة بالرماد والتراب والعرق .
> الليل توغل ونحن منهمكين فى توزيع الطعام للنساء والأطفال ، الرجال قالوا النساء والاطفال اولاٌ ، أعطيناهم الغطاء والفرش ، بعضهن لم يكن قادرات على الوقوف فى الصف كنت اذهب اليهن حاملة حصتهن ، لقد هدهن الحريق واخريات فقدن اطفالهن ، جلست قربهن لم ار فى حياتى كلها حزناٌ على ملامح الوجه كتلك التى رايتها يوم ذاك على وجوه اولئك النسوة لقد دخلن النار للبحث عن اطفالهن دون جدوى حتى أن إحداهن قد استنفدت قوة عشرة رجال ليتمكنوا من سحبها خارج المعسكر بعد أن فقدوا الامل فى إيجاد طفلها ، لقد فقدن اصواتهن من كثرة الصراخ والعويل على فم احداهن الكثير من الذبد وبقايا دموع مالحة على الخدين ، بقيت قربهن مانحة إياهن بعض الطمأنينة . سهرت معهن إلى أن اخذهن النوم .
> قرب الفجر رايتك تقف بعيدا انت ايضا لم تنم
> - لم أكن اتوقع منك هذا الكم الهائل من العطف
> - لهذا السبب قررت البقاء
> بقى بقية افراد الحملة يومين كان عادل خلالها كأفضل رجل رايته يتحمل الألام ويتمتع بنزاهة ومقدرة عالية على قيادة شئون الحملة ، يفتح حقيبته الإسعافية ويساعد الجرحى لحين نقلهم الى المستشفى ، يمنح النساء الرأفة ويبحث فى اكوام الرماد عما يمكن إنقاذه ، كنت اعمل قريبة منه ، اراقبه وكأنى لن احب سواه . وها أنا بعد كل هذه السنوات الثلاث والتى قضيتها فى المعسكر لم ار رجلاٌ يحمل حنانا على اولئك النازحين كالذى كان يحمله .
اميمه عبدالله