كم في ثياب الزهد من صياد


كم في ثياب الزهد من صياد...!!

عبد الحميد أحمد محمد

- - - - - - - - - - - - - - - - -

إن تتطرق للكهنوت والنفاق الديني فأفعل كمن يدرك ما يحتوش ذلك السبيل من كلاليب توشك أن تختطفه وسهام لابد أن تنوشه فيسبق كل ذلك ويجعل له طريقاً للنجاة وخطّاً للرجعة والتقهقر تحرفاً لكرة أخرى أو تحيزاً لفئة تنجده،- كذلك فعل أمير الشعراء- وهو ذكاء يحسب له (ومن خاف سلم!)

في (مملكة الحيوان) عالج شوقي أمير الشعراء الكثير من القضايا الإنسانية الشائكة على ألسنة حيوانات وطيور .. وكما جعل المتنبي حصانه هو ما يلفت بني الإنسان إلي سنة أبيهم آدم في مفارقة الجنان (يقول بشعب بوان حصاني /أعن هذا يسار إلي الطعان)(أبوكم آدم سنّ المعاصي/ وعلمكم مفارقة الجنان) فإن شوقي يعالج قضية (النفاق الديني) ويروي حكاية الصياد والعصفورة:

حكاية الصياد والعصفورة / كانت لبعض الزاهدين صورة

ماهزئوا فيها بمستحق / ولا أرادوا أولياء الحق

ما كل أهل الزهد أهل الله / كم لاعبٍ في الزاهدين لاه..

وهنا مربط الفرس والبوابة التي مكّنت شوقي من النجاة فما أراد أولياء الحق ولا عرّض بمستحق للتبجيل ولكن...

أخ حبيب بسط إليّ يده بكتاب جميل الغلاف مصقول الأوراق بعنوان شيق وما أن وقع بصري على مؤلفه حتي قبضت يديّ التي كنت باسطها لأمسكه! قلت ياأخي أقلعت عن القراءة لهولاء ويكفي ما أنفقناه من وقت في مطالعة كتبهم في زمان كنا ننظر لهم كأولياء لله ونحن طلاباً بالثانويات حتى إذا تقدم بنا العمر اكتشفنا أن أحدهم يمكنه أن يعمل مستشاراً بالقصر أو الوزارة بمثل ما يعادل عمر شاب جذع فلا هو نفدت ذخيرته من التجارب ولا فرغ جرابه من الرأي والمشورة يأكل من المال العام والمخصصات الباذخة ثم يذهب إلي أهله يتمطي ليحدثهم ويعطيهم (مفاتحاً لفهم القرآن الكريم) أو يقدم نظرات في فقه كذا وكذا.!

إمام المسجد الكبير بالخرطوم يوم أعلن بعد صلاة الظهر عن محاضرة يقدمها الشيخ الكبير الحبر الخطير عقب الصلاة تذكرت أبيات شوقي عن الصياد والعصفورة ورددتها -في المسجد يا هداك الله؟- نعم. ثم سارعت فحجزت موقعاً متقدماً بين الصفوف..ثم انتظرنا زماناً بعده جاء (الشيخ) يهرول كنت أظنه صلى مع الجماعة بالمسجد حتى اتجه لركن قصي من المصلى فأمّ سائق سيارته الفارهة وبعضاً من حاشية تتبعه في صلاة لا أدري إن كانت خداجاً ولكنها كانت خاطفة عجلة،.. ثم التفت للحاضرين وقال في (خشوع!!) : والله ما أخرني عنكم إلا مقابلة أجريتها مع مراسل مجلة كان يحاورني وأرجو أن لا يكون في ذلك رياءً ولا سمعة ولا طلباً للشهرة(!) وأن يتقبله خالصاً لوجهه الكريم..(!)

لم يذكر مقولة تكثر منها حتى (الحبوبات) بالبيوت (لا بارك الله في عمل أبطل الصلاة) ولكن يبدو أن (أسلاميي) الزمان الأخير ومستشارو التأصيل ومحلي الربا والجبايات والتحصيل .. قد إستبدلوا انتظار الصلاة إلى الصلاة برباط آخر هو دخول التشكيل الوزاري تلو التشكيل الوزاري (فذلك الفلاح ذلك الفلاح)

تحسست رأسي ثم حزنت على جزء عزيز من شعري كنت قد فقدته (مقصّراً) يوم خضت مشاجرة حامية بمقر الإتحاد الإسلامي للشباب وأنا يومها طالب ثانوي لأن أحدهم إختلس مني رسالة كانت تتحدث عن صنع الشهادة لفضيلة الشيخ (الإمام) كان (يعلمنا!) فيها التجرد والثبات والإخلاص طريقاً للنصر والشهادة في سبيل الله /أسمى أمانينا! /..بينما تشبث هو بوظيفة رفيعة في الدولة لعقود من الزمان! يومها كان طيف شوقي يحوم حولي مردداً:

أَلقى غُلامٌ شَرَكاً يَصطادُ ... وَكُلُّ مَن فَوقَ الثَرى صَيّادُ

فَاِنحَدَرَت عُصفورَةٌ مِنَ الشَجَر ... لَم يَنهَها النَهيُ وَلا الحَزمُ زَجَر

قالَت سَلامٌ أَيُّها الغُلامُ ... قالَ عَلى العُصفورَةِ السَلامُ

قالَت صَبِيُّ مُنحَني القَناةِ ... قالَ حَنَتها كَثرَةُ الصَلاةِ

قالَت أَراكَ بادِيَ العِظامِ ... قالَ بَرَتها كَثرَةُ الصِيامِ

قالَت فَما يَكونُ هَذا الصوفُ ... قالَ لِباسُ الزاهِدِ المَوصوفُ

سَلي إِذا جَهِلتِ عارِفيهِ ... فَاِبنُ عُبَيدٍ وَالفُضَيلُ فيهِ

قالَت أَرى فَوقَ التُرابِ حَبّا ... مِما اِشتَهى الطَيرُ وَما أَحَبّا

قالَ تَشَبهتُ بِأَهلِ الخَيرِ ... وَقُلتُ أَقري بائِساتِ الطَيرِ

فَإِن هَدى اللَهُ إِلَيهِ جائِعاً لَم يَكُ قُرباني القَليلُ ضائِعا

قالَت فَجُد لي يا أَخا التَنَسُّكِ ... قالَ اِلقُطيهِ بارَكَ اللَهُ لَكِ

فَصَلِيَت في الفَخِّ نارَ القاري ... وَمَصرَعُ العُصفورِ في المِنقارِ.

كم خسرت الحركة الإسلامية في السودان جراء تجربتها في الحكم التي جاءت إليها دون زاد كافي من الفقه والعلم العاصم من الفتنة والسقوط في أحضان الدنيا؟ لقد صام الإسلاميون طوال عهود وصلوا وقاموا تطوعاً تربية للنفوس وردعاً للهوى كانوا يومها فقراء لم يجربوا لذة السلطة والثروة والجاه ثم فجأة إنغمسوا في كل ذلك فنسوا وغرهم طول الامل .! لقد أسقطت تجربة حكم الإسلاميين أهم شئ ظلوا يتمسكون به ..القدوة الحسنة والزهد والصدق فأخلدوا للإرض وركنوا للنعيم فأنهدم المثال وشاهت الصورة الجميلة المشرقة وحشود (الصيادين) تخطر في ثياب الزهاد تزحم شارع النيل من مسجد الشهيد بالمقرن وحتى القصر الجمهوري فالنادي الكاثوليكي قرب مطار الخرطوم .. كلهم يمشي وئيد كلهم يطلب صيد بعد مولانا عبيد الذي عاش شهيداً قبل أن يمضي شهيد.

إن عصفورة شوقي أدت ما عليها وبصّرت بالحقائق صاحت فينا نحن معشر الطيبين السذّج:

وهتفت تقول للإغرار...مقالة العارف بالأسرار

إياك أن تغتر بالزهاد ...كم تحت ثوب الزهد من صياد.

هل سمعتم أن هيئة علماء السودن بقيادة (علماء السلطان) والمستشارين الكبار قد احلت الربا بمسوغات الضرورة وجعلت تقدير ذلك للسلطان الرجيم؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق