الأثر القرآني في أشعار روضة الحاج

بقلم: عبد الحميد أحمد محمد

سئلت الشاعرة روضة الحاج في واحد من حواراتها المنشورة عن ملامح البدايات الشعرية ومصادر ثقافتها وبمن تأثرت في نظمها الشعر فقالت:
"من عمق البادية جاءت ملامح البدايات الشعرية، ومازلت أذكر ذلك الطرب الجميل الذي يستخفنى كلما استمعت الى (دوبيت) بدوي يختصر البطانة خضرة وغناء ويلخص مفردات الجمال البدوية الصادقة والندية ثم أنى بعد كل ذلك قرأت كل ما خيل أنه شعر بكل مراحله التاريخية ولم أكتف بذلك حيث تخصصت أيضا فى اللغة العربية وآدابها. أما بمن تأثرت فهذا سؤال صعب لأنني لا أستطيع أن أسمى أحداً في الناس وأعترف أن الكل قد نقش حرفاً على صفحة خاطري الشعري."
غناء البطانة وخضرتها وتخصص في اللغة العربية وآدبها كل ذلك أثر في الشاعرة ولكن يستطيع المتتبع لشعر روضة الحاج – كذلك - أن يلمس بيسر وسهولة ذلك الأثر البائن من ثقافة قرآنية تبدو راكزة عميقة في وجدان الشاعرة، مصدراً زاخراً مازالت الشاعرة ترده في كثير من قصائدها وكلماتها، حيث استطاعت أن تفيد من الإقتباس القرآني والتلميح لبعض الآيات الكريمة وتمكنت من إتقان ذلك بمهارة كبيرة، وإن كان قد ثار جدل منذ القديم حول مشروعية الإقتباس والتضمين من القرآن في الشعر والنثر والخطب إلا ان الغلبة من بعد كانت لجواز ذلك الأمر من دون إفراط أو تفريط وعلى هذا النحو سار جلال الدين القزويني حين أشار إلى هذه القضية في كتابه ( الإيضاح في البلاغه) فقال:
"…بعض الناس ينهون عن هذا، وربما أدى بحث بعضهم إلى أنه لا يجوز، وقيل إنما ذلك
يفعله الشعراء الذين هم في كل وادٍ يهيمون، ويثبون على الألفاظ وثبة من لا يبالي. ولكن هذا
الأستاذ أبو منصور البغدادي من أئمة الدين وقد فعل هذا وهو جليل القدر والفائدة قد روى الحافظ هذين البيتين عنه في كتاب السنن:
يا من عدا ثم أعتدى ثم أقترف ثم أنتهى ثم أرعوى ثم أعترف
إبشر بقول الله في آياته "إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف."
وفي اصطلاح أهل المعاني والبيان أنه إذا ذكر المتكلم ناظماً أو ناثراً في كلامه
كلام غيره لا على حكايته. فإن كان ذلك الكلام من عبارات القرآن أو الحديث، فهو
الاقتباس، وإن كان شعراً فهو التضمين، وإن كان أشار إلى كلام غيره إيمآء لا تصريحاً فهو
التلميح.
وقد أجاد الآخر حين قال:
خلة الغانيات خلة سوء فاتقوا الله يا أولي الألباب
وإذا ما سألتموهن شيئاً (فاسألوهن من وراء حجاب)
كذلك حفلت مقامات الحريري بالكثير من الإقتباسات والتلميحات مما يستحسنه القارئ ويستملحه دون أن يحس فيه سوء أو مخالفة ومن ذلك قوله:
"فلم يكن (إلا كلمح البصر أو هو أقرب) حتى أنشد فأغرب" وقوله (أنا أنبئكم بتأويله) وأميز صحيح القول من عليله." وقول ابن نباتة الخطيب: "فيا أيها الغفلة المطرقون أما أنتم بهذا الحديث مصدقون ما لكم لا تشفقون (فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) وقوله أيضاً من خطبة أخرى ذكر فيها القيامة: "هناك يرفع الحجاب ويوضع الكتاب ويجمع من وجب له الثواب، وحق عليه العقاب، (فيضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب).
والإقتباسات هذه على الترتيب من آيات سور النحل، يوسف، الذاريات، الحديد.
وبالعودة لتقصي هذا الأثر في أشعار روضة الحاج نجد كماً كبيراً من ذلك فيه، ما هو على سبيل الإقتباس والتضمين وآخر على نحو التلميح والإيماء من بعيد، ولعل أبلغ ذلك وأوضحه إستهلالية قصيدتها (وقال نسوة) إذ تفجأك بذلك المطلع المدوي منذ البداية:
(وقال نسوة من المدينة)
ألم يزل كعهدهِ القديمِ في دماكِ بعدْ ؟؟
وإن كانت الشاعرة قد إستبدلت حرف الجر(في) (بمن) على غير ما جاء في الآية فإن الوقع يظل قوياً ويستدعي المشهد في سورة يوسف سريعاً حتى أنك تكاد تنصت لهمهمات أولئك النسوة وتسمع بمكرهن كما سمعته إمرأة العزيز فإذا كان هناك تماثل في ذات الموضوع الذي تهامست النسوة بأخباره اكتملت الصورة وتطابقت فعلى حين قال أولئك (... امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) فإنّ نسوة المدينة التي رسمتها روضة الحاج قلن يسألنها:
" ألم يزل كعهدهِ القديمِ في دماكِ بعدْ ؟؟
ويبقى المشهد مسيطراً على الشاعرة فتسير سيرة أمرأة العزيز في إقناع أولئك الماكرات لكن روضة تعد متكأً آخر:
عذرتَهُنّ سيّدِي !!
أشفقتُ
ينتَظِرنَ أن أرُدْ !
وكيف لي وأنتَ في دمي
الآن بعدَ الآن قبلَ الآن
في غدٍ وبعدَ غدْ ..
وحسبما وحينما ووقتما
يكونُ بي رَمقْ ..
وبعدما وحينما وكيفما اتفَقْ !!
لو علمن هذه الحقيقة لجرى عليهن ما جرى على أولئك وقد آتت إمرأة العزيز كل واحدة منهن سكيناً وقالت ليوسف أخرج عليهن (لَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ).
ولكن الشاعرة كأنها أشفقت على صاحباتها إن هي أجابت على تساؤلاتهن فعلمن تلك الحقيقة:
لو أنهنَ سيّدي
(لقطّعتْ أناملٌ) مشتْ على الخدودِ
بالكلامِ والمُلامِ والسؤالْ ..
يسألنني
وينتظرنَ أن أردْ.
كذلك يبدو الأثر القرآني بارزاً جلياً في شعر روضة الحاج وهي تظهر اهتماماً وولعاً بمتابعة رحلة موسى عليه السلام منذ أن خرج من مصر خائفاً يترقب حتى وروده ماء مدين ثم قضائه الأجل ومسيره بإهله في طريق عودته وما حدث له من معجزات في ذلك الطريق، جميع ذلك يتناثر في أشعار روضة الحاج متفرقاً في عددٍ من القصائد وكانها تحاول أن تكمل لوحة كانت قد بدأتها سابقاً فإذا قربت تلك القطع المتناثرة لبعضها اكتملت القصة جميعها.
انظر إليها في مهرجان (امير الشعراء) وقد جعلت من نفسها واحدة من بنات شعيب:
ولكن وردي للإمارة دونه رعاءٌ أبوا إلا الصدور غروبا
أذود ولم يسق القوي الأمين لي ولكن حروفٌ يرتدين قشيبا
وإن إجتهدت في أن تنفي خضوعها (لرجل) يسقي لها إلا أن صورة (ماء مدين) تبقى شاخصة تاكد تسمع ثغاء شياهه وخوار ماشيته وقتما يصدر أؤلئك الرعاء.
ثم في موضع آخر تقتفي الشاعرة أثر موسى الكليم عليه السلام وقد سار بإهله قال تعالى:
(فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ) القصص29
وفي سورة طه: (إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) طه10
على ذات الطريق آنست الشاعرة ذات النار التي رأها موسى عليه السلام فأسرعت تلتمس جذوة من شعاع – لعلها تريد أن تصطلي، فالكون قُر – لذلك أيضاً قصدها موسى بعد أن أرهقه واهله البرد والمسير. تقول:
إني وجيش الهم والإظلام يرجوني صديق ..
آنست ناراً كالبريق... أسرعت آتي بالقبس..
فوجدت عند النار من كان الرفيق
فهتفت لا.
ثم يتصل المنظر ويمضي إلى آخره كما وقف الكليم وقد خلع نعليه بالوادي المقدس طوى حيث تجلى ربه للجبل فجعله دكاً وخرّ موسى صعقاً، (فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)
هكذا بدى المشهد في مخيلة الشاعرة فذهبت تبحث عن شئ تحتمي به من ذلك النور إن بدى ولاح باهراً يدك قصائدها ويصعق قولها..
وبأي شئ أحتمي..
من نور وجهك أن بدى؟
دكاً تكون قصائدي
صعقاً يخر القول مني ينثي عصب القصيد..
ولعل هذا الأخير هو أقرب إلى التلميح منه إلى الإقتباس والتضمين الكامل كما في قولها (وقال نسوة من المدينة)، فقد ضمنت قولها شيئاً من القرآن الكريم ولكن ليس على أنه منه وإنما تلميحاً يردك رداً إلى تلك الآيات ومشاهدها، الغاية التي أعتقد أن الشاعرة كانت ترمي إليها بالأساس.
أخيراً فإن كانت روضة الحاج لا تنكر ولا تخفي إنتماءً فكرياً لتيار الإسلاميين في السودان ولا تعتقد أن ذلك يمكن أن يقلل من إنتشارها وقبولها ففي حديثها لمجلة الثقافة السودانية الالكترونية "مشاعل" قالت:"..الإنتماء الفكري – وأصر على الفكري لا السياسي - يجب أن لا يفسد للإبداع قضية وبهذا المنطق يؤمن الكثيرون بدليل أنني أعتقد بأن إنتمائى الفكري لم يشكل لي عائقاً علي الإطلاق في أى يوم من الأيام.
إنتماء فكري تقر به الشاعرة روضة الحاج لابد أنه هو الذي غذى فيها الثقافة القرآنية حتى بدت واضحة على أشعارها فهل يا ترى مازالت تلتزم كذلك بتعاليم الإمام البنا فتجعل لها ورداً يومياً من القرآن الكريم.؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق