وإسحق فضل الله.. بلعم باعوراء آخر

عبد الحميد أحمد محمد·

ولأننا نحب شيخ إسحق نكتب إليه ونشفق عليه.والصحيفة التي تعدو بها الريح بالطريق العام نلتقطها فقط لنصون (صورة إسحق) وحروفه بعيداً عن الأوساخ والنفايات ولكن..

حروف إسحق التي تحملها الريح نحو النفايات تسارع هي ومن السطر الأول فتلوث عقولنا و..

والأستاذ يتهم د. على الحاج تلمحياً وتصريحاً بالإرتباط بمخابرات أجنبية وأنه خلف ما يدور في دارفور وجانب مما يدور في تشاد اليوم!.·

ولفحة الهواء الساخن في نهار الخرطوم الصائف تحمل صوت مذياع بعيد ومطرب ينوح "لو حتى حق الريدة هان أنا لي عليك حق الولف".. ونضحك

ولو لم يبق من الود بين الإسلاميين إلا (حق الولف) لكان كافياً أن يردع إسحق عن تجريح (إخوته) -حتى الأمس القريب!-

والجهات التي تعمل على إذكاء إسحق نعلمها وهي تخادعه بسراب (الإنقاذ) الكذوب -حتى إذا جاءه يوماً لم يجده شيئاًً ووجد الشعب عنده فوفاه حسابه .

و(الإنقاذ) التي لا نجدها اليوم إلا في مقالات إسحق فضل الله تذكرنا بـ (البو)..

والأعراب الذين هم أشد كفراً نفاقاً يخادعون الناقة التي مات رضعيها بالبو هذا يستدرون ألبانها · والبعض هنا يقف عند رأس إسحق حتى إذا أوشك أن يصحو من سكرته لوّح بجلد (الإنقاذ) المحشو بالتبن والعشب الرطب فيبدو عجلاً جسداً له خوار! فتجيش عواطف القاص والروائي الماهر ويخرج من كمه قطعة نثرية مدبجة بمدح الإنقاذ التي يصبح النائب الأول فيها (سلفاكير) ووزير خارجيتها (دينق ألور) بينما أخطر معارضيها وأشدهم فتكاًً هو د.علي الحاج .! ذات الشخص الذي يجعله الكاتب الكبير يقرب بين دارفور وتشاد وهايدلبيرج حيث إدارة المخابرات الألمانية والذي يمضي عشرة الليالي الأخيرة من يناير في فندق التوحيد بمكة المكرمة (عشرة آلاف ريال سعودي لليلة الواحدة!) وبحسب اسحق فإن السفارة الألمانية هي من يدفع فاتورة الدكتورالباهظة.

· وعشرة ليال يقضيها على الحاج في مكة تثير حفيظة البعض هنا، الذين يبدو أنهم نسوا أن بيت الله الحرام الذي جعله الله للناس سواء العاكف فيه والباد… إنما هو ببكة وجهة كل الموحدين والمعتمرين...أو هكذا يريدون تضليلنا· وكأن إسحق الذي يتولى كبر تشويه سيرة الرجل الثاني في الحركة الإسلامية كأنه هو من دشّن الأذان الأول في تاريخ معهد غردون العتيد بكل باراته ومراقصه و..وكأن اسحق كان هناك إذ يرفع علي الحاج القواعد من بيت الحركة الأسلامية مع إخوته الصادقين لا زاد غير معان من سورة الضحى "ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى …" حتى إذا أغتنت الحركة وأثمرت وفتحت أبوابها وكنوزها للقانع والمعتر دخلها إسحق مع من دخل وهم يومئذ عبئ عليها وعالة.

· وبعض ما يكتبه إسحق اليوم يجعل فئات من النشئ واللاحقين المتأخرين يظنون أن الحركة ودولتها شئ بناه وقام عليه ثلة العسكريين من النظاميين والمتعسكرين المدنيين حولهم من من يدينون بدين ملوكهم وهذا هو بيت القصيد· فحملة التشهير بالأبكار من قيادات الحركة الأسلامية تنطلق وبشعارات مبتذلة تجعل القبلية شعارها والعرقية دثارها والجهوية لحمتها والذاتية الضيقة سداتها ! وهي شئ يبدأ منذ أواسط التسعينيات حين يحس البعض من (الإسلاميين) بأن تقدم على الحاج يترتب عليه تأخرهم في الدولة التنظيم .

· وقصص الإخوان الهامسة في المجالس المغلقة تروي عن شخص كبير كبير عبارات عنصرية لو تفوه بها شخص في أمريكا (الظالمة) لحملته تواً إلى السجن الفدرالي .

· وعلى الحاج هو دائماً هدف تلك السهام· ويكفي أن إسحق -الذي نقرر أخيراً أن نلفظه من قلوبنا- هو كاتب المقال "لا قبلة ولا قبيلة فموتوا كراماً" المقال الذي يسبح بحمد العنصرية ويغرق فيها.

وبعض ما يحمس إسحق لمثل هذه المقالات إن نحن ذكرناه جرى يشكونا للمحاكم· ولكن...

ولأن إسحق رجل مولع بالقصة نهديه قصة المثل العربي (لعلي مضلل كعامر)!· والصديق اللئيم يقنع عامراً بأنه على علاقة بزوجة سيد القبيلة ثم يطلب من عامر أن يجلس بمجلس السيد الكبير حتي إذا همّ بالإنصراف تنحنح عامر بصوت مسموع فيخرج صديقه من عند زوجة السيد المهاب.، و· والصديق الخبيث إنما كان يغشى أم عامر!

وعامر يتنحنح في كل ليلة كلما هم سيد القوم بالقيام.. ليل وليلين وثلاث والسيد ينتبه ثم يغلق فم عامر ويمسك بتلابيبه حتى يدخل به على زوجته فإذا هي آمنة في سربها وسط بنيها ويقول له هل ترى من بأس و.. والرجل يمضي بعامرٍ لبيته فإذا صديقه متبطناً أمه في ثوبها. حينها فقط يطلقه ويرسلها مدوية (إنما المضلل هو عامر)

· وبعضهم يرسل إسحق ليكتب بعدد من صحف الخرطوم ويتنحنح في (آخر الليل) ليلهي السادة شعب السودان. ويوماً ما يهب الشعب يمسك بتلابيب إسحق ويطوف به حينها لن تكون قرى العليفون وشرق النيل آخر المطاف حيث يسرح الجهل والفقر والمرض حال أغلب قرى السودان ، وقتها فقط سيدرك إسحق (إنما المضلل هو إسحق)

· ونقهقه

صحيفة ألوان - 2008

تحالف السلطان والدرويش (2)

قراءة في فتاوى فقهاء البطيخ البارد..!

عبد الحميد أحمد محمد

"فإلى متى صمتي وحولي أمـة ** يلهو بها السلطان والدرويشُ

هذا بسبحتـه وذاك بسيفــه ** وكلاهما مما تكدُ يعيشُ"

محمد إقبال

من ذكريات الإسلاميين "الحركيين" المريرة -أو الطريفة إن شئت- أيام اجتماعهم إلى التيار "السلفي الملكي" أثناء تجربة العمل الجبهوي سبعينيات القرن الماضي، أن أحدهم ممن استوعبتهم "جبهة الميثاق الإسلامي" أُوكلت إليه مهمة عملية من شأنها أن تقوده للإصطدام المباشر بالحاكم العسكري المتجبر في ذلك الزمان .. فأرجع الرجل "السلفي" البصر كرتين في عاقبة أمره ثم أعلن عن رفض قاطع للمهمة وهو يقول محتجاً: "ليه عشان يدخلوني زنزانة إتهبب فيها بالطوبة وإنتو تقعدوا بره تأكلوا البطيخ البارد..!!"

هذه هي نقطة المباينة بين جماعتين إسلاميتين الأولى تجعل من كلمة "ابن الوردي" لها دثاراً ومنهاجاً تُشاعِره في جميع حالاتها ولا تؤمن بالمواجهة مع الحاكم ناهيك عن كفاحه ومصادمته:

"دارِ جارَ الدارِ إنْ جارَ وإنْ/ لمْ تجدْ صبراً فما أحلى النقلْ

جانبِ السلطانَ واحذرْ بطشَهُ/ لا تخاصمْ مَنْ إذا قالَ فعلْ"

وهذه الطائفة هي التي دائماً ما تشاد المؤسسة الفقهية الرسمية على أعمدتها وأركانها.

والجماعة الثانية هي تيار الإسلام الحركي الذي يجد الجهاد أكبره في "كلمة حق عند سلطان جائر" ولئن كانت تلك هي نقطة المفارقة بين طائفتين بمنهجين مختلفين فإنها أهدت الآخيرين وهم يجلسون فيما بعد إلى دست الحكم ويتبوّؤون مقاعد "من إذا قال فعل" أهدتهم مفتاحاً مهماً من مفاتح توظيف المدرسة "الفقهية السلفية الملكية" واستغلالها الاستغلال الأمثل في إضفاء الشرعية على كثير من الممارسات والسياسات التي اتبعوها حيث وفرت لهم غطاءً فقهياً دينياً أذعن بموجبه كثير من العامة والبسطاء.

إستطاع (نظام الإنقاذ) في سنواته الأخيرة هذه أن يفيد من هذه المدرسة الفقهية التي لا تني تخطب وُدَ السلاطين –أياً كانوا- بمسوغات "ذي الشوكة، ووجوب السمع والطاعة "ولو ولى عليكم عبد حبشي" وعمد (الإنقاذيون) الذين أحسنوا قراءة ذلك المشهد إلى أن صنعوا جسماً أضفوا عليه صفةً (شرعية) توافرت إليه جميع خصائص وسمات المدرسة السلفية الملكية التي يجد د. الشنقيطي انها أشد خطراً من ما اسماها بـ "السلفية الفوضوية" وهي ما ينشأ مقابلاً للمدرسة الأولى كردّة فعل عليها "فتخرج على السلطة وعلى المجتمع معاً، وتسعى إلى تفجير الكون كله أملا في ميلاد عالم جديد لا تملك تصوراً واضحاً عن ملامحه."

ولعل مظاهر التشابك والتكامل بين هذين التيارين تبدو أوضح ما تكون حين نجد أن "السلفية الفوضوية" تستمد عناصر ومسوغات وجودها من نهج الأوائل العاجزين عن التفريق بين التعبير السلمي والخروج المسلح فيجعلون من الوقوف في وجه المنكرات السائدة في الدولة المسلمة فتنة وخروجاً على الطاعة بل يبيحون لحكام الجور "الضرب بيد من حديد" –بحسب تعبيرهم - على يد كل صاحب رأي معارض أو حتى ناصح مشفق.

عمدت الإنقاذ –كذلك – إلى وضع عدد من العناصر "الرخوة" من داخل كيان الإسلام الحركي داخل ما يسمى "بهيئة علماء السودان" بعد أن أعملت فيهم عوامل الترغيب والترهيب فأثقلت وزرهم بالوظائف العليا كمستشارين رئاسيين ونواباً بالبرلمان الحكومي المعين حيناً بأمر الحاكم لعقود متطاولة من الزمان فلا يألو واحدهم من بعد جهده أن يراجع المسألة الشرعية محل النظر وفق ضوابط الدين والشريعة والشواهد تقم كثيفة لحالات أطلقت فيها الفتيا على عواهنها بطريقة أقرب ما تكون إلى التحريض والإيعاز بسفك الدماء، لا يهم أحدهم أن الإجتماع موثق تتناقله قنوات التلفزة العالمية، وهذا عينه ما أوقعه عالم علامة و(حبر) فهامة إبان ملابسات قضية سياسية شهيرة فقال العالم (الحبر) الكبير من فوره وهو يستمع إلى مرافعة الحاكم "ذي الشوكة.!" الذي هو الخصم في تلك القضية دون أن يتوخى العدل والإنصاف بالإستماع إلى الطرف الآخر: "سيدي أنا لا أريد أن أدعو بدعوة زياد بن أبيه.! زياد قال: "والله لأخذن المقيم بالظاعن والصحيح بالسقيم حتى يلقى الرجل أخاه فيقول أنجو سعد فقد هلك سعيد." ومضي قائلاً: "أنا لا أدعو بهذه الدعوة ولكن لا بد أن "نضرب على أيدي هؤلاء بيد من حديد." وهو الموقف الذي خالفه فيه وبذات المجلس بعض العلمانيين ممن يتبرأ منهم العالم الجليل، وهم يطالبون بالإحتكام إلى آليات عادلة في التقاضي تمكن من أخذ المذنب بجريرته ولا تجور على برئ غير مدان.

وهكذا إمتداداً للتوظيف التركي – البريطاني للفقيه القابل للتأطر داخل المؤسسة الحكومية الرسمية أفلح (الإنقاذيون) في سنواتهم الأخيرة هذه من بعد إنفراط عقد الحركة الإسلامية المرجعية الفكرية والدينية لمشروع الإنقاذ الإسلامي انتكاسة مشروع الحكم بكامله- أفلح الإنقاذيون في خلق المؤسسات الدينية التي توفر له الغطاء الديني اللازم الذي يكفل الدعاية لموالاة الحاكم وفق المسوغات السلفية (وجوب الخضوع لذي الشوكة) وشعارات (حاكم غشوم خير من فتنة تدوم) التي انتجتها عقول الفقه "المتسلفن" المأسور إلى أغلال التقليد والماضي المتشرب بالمفاهيم السلفية القاصرة. ولئن كانت التجربة السودانية اليوم هي ذاتها تجربة المؤسسة الفقهية العثمانية التليدة فإن بعض التجديدات في مضمون الخطاب إستطاع أن يلبسها ثوب "المدرسة السلفية الملكية" كما يحلو لـ د. محمد بن المختار الشنقيطي والتي يضع لها تعريفاً يقول: ""أنها تلك المدرسة من الفقهاء التي تشرِّع لحكام الجور أفاعيلهم، وتعظ الرعية بالإذعان لهم والطاعة، وتحذر الناس من الفتنة والشقاق.." حتى لقد أفتى بعض فقهائهم بأن المظاهرات السلمية حرام، وبأن مشاهدة قناة الجزيرة "لا تليق بطالب العلم ... لأن ولي الأمر لا يحبها"!!

إذاء هذا لم يكن مستغرباً أن يأتي خطاب "المؤسسة الفقهية الرسمية" متسقاً ومتماشياً مع الخطاب الرسمي الحكومي فيما يتعلق بقضية الإستفتاء حول جنوب السودان والمآلات التي ستتمخض عن ذلك الإجراء. إلا أن خطاباً مختلفاً تبنته طائفة من (العلماء) ذوو الصلات الوثيقة بالحكومة في أعلى مستوياتها ممن أسهموا بأدوار فاعلة في حشد التأييد الشعبي للمؤتمر الوطني خلال حملته في الإنتخابات السابقة. وشنّ أثنان من (العلماء) أثناء العشر الأواخر من شهر رمضان ومن خلال خطبة عيد الفطر المبارك هجوماً ضارياً على إتفاقية السلام الشامل التي تم توقيعها بنيفاشا (2005) وبدى كأن الخطيبان ذوا التوجهات السلفية يصوبان نقداً شديداً لحكومة المؤتمر الوطني ويحملانها مسئولية التردي الأخلاقي والقيمي الذي حاق بالشعب السوداني السنوات الأخيرة إلا أن كلا الرجلين لا يلبث أن يوجه شكراً لذات الحكومة التي تقدم بنقدها ورجالاتها وهذا ما يجعلك تنظر إلى أبعد من إدعاء الرجلين الغيرة على الدين التي حاولا إظهارها.

التشابه في خطاب الرجلين إلى درجة التطابق يجعل من المرجح أن تكون جهة ما قد أعدت ومن ثم مررت تلك الكلمات من خلالهما فقد دعا كل منهما وبعبارة واحدة "إذن فاليتمزق السودان إن كان إلغاء الشريعة ثمناً لوحدته" وهذا ما يكشف عن الدور المرسوم بعناية والمراد به إيجاد تخريج مناسب للزلزال الذي لا محالة واقع وسيشق البلاد إلى نصفين، فالمؤسسة الفقهية الرسمية يراد لها أن تقول إن جنوب السودان تمت التضحية به من أجل إرساء شرع الله في شمال السودان وهذا فقط هو الخطاب الذي يتسق مع الموقف الحكومي الذي يبحث عن مبررات يواجه بها انفصال جنوب السودان.

هذا وقد ألحقت مجموعة من الفتاوى صدرت عن هيئة (علماء) السودان سمعة سيئة بمكانة العلم والعلماء ووضعتها مكان التندر لدى العامة وهم يقرأون عن بيانات تكفير الخصوم السياسيين وتحريم التصويت لمن يخالف الحاكم وحزبه الرأي. وثار لغط كثيف بين الناس إبان الإنتخابات السودانية الماضية عن رفض بعض العلماء التوقيع على بيان يحاول وضع حدود شرعية للممارسة الإنتخابية ويحظر على المسلمين التصويت لغير المسلمين ممن قال أحد المعترضين انهم وصفوا بالفجار والمجرمين في البيان المختلف عليه الشئ الذي قوبل بالرفض من بعض العقلاء داخل الهيئة الفقهية الحكومية بحجة أن الوضع السياسي الراهن بالسودان لا يحتمل هذا التوصيف.

من قبلُ كانت الهيئة المذكورة قد نجحت بالفعل في توقيع فتوى بعدم جواز سفر رئيس جمهورية السودان أعقاب مذكرة اعتقال دولية صدرت بحقه، وهو ما اعتبرته الأوساط المستنيرة تزلفاً لا يليق بمقام العلم والعلماء لا سيما بعد أن تجاوز الرئيس نفسه الفتوى فداس عليها قبل أن تطأ أقدامه البساط الأحمر وهو يعبر إلى الطائرة التي أقلته في "سفره المحرم" وفق فتوى الهيئة الشرعية.

تحالف السلطان والدرويش (1)

المؤسسة الفقهية الرسمية.. التوظيف السياسي للدين

عبد الحميد أحمد محمد

"فإلى متى صمتي وحولي أمـة ** يلهو بها السلطان والدرويشُ

هذا بسبحتـه وذاك بسيفــه ** وكلاهما مما تكدُ يعيشُ"

محمد إقبال

ذهب د. النور حمد في سفره القيّم (مهارب المبدعين- قراءة في السير والنصوص السودانية) إلى القول بأن المزاج الديني السوداني دهر ما قبل دخول التركية إلى السودان كان يمالئ ويميل إلى التدين "الصوفي الشعبي" وأنّ ثمة تغيير طرأ على هذا المزاج العام جراء التغييرات السياسية التي حملها الفتح التركي للسودان الذي أدخل إلى السودان لأول مرة "المؤسسة الفقهية العثمانية" التي جاءت بعلمائها وفقهائها جنباً إلى جنب الجيش الغازي –ولكل سلاحه ودوره.

وقد نجح د. النور حمد من خلال قراءة كثيفة لتلك الوقائع في بلورة الرؤية التي ظلت تتبناها قبائل من اليسار السياسي السوداني الذي يبدو أنه يكن إعجاباً خاصاً (للقوم) أهل الطريق من المتصوفة إذ أن أكثر ما يستخدم عندهم للتدليل على انحياز المزاج الشعبي للمتصوفة مجانباً لمواقف الفقهاء من أهل العلم الشرعي قصة الشيخ محمد الهميم مع القاضي دشين. ونقل ود ضيف الله في طبقاته: "أن قاضي الشريعة دشين أنكر على الشيخ الهميم جمعه بين الأختين حين قدم وحضر صلاة الجمعة بأربجي ، فلما أراد الخروج من الجامع قبض دشين لجام الفرس وقال له: خمست وسدست وسبعت في الناس ما كفاك حتى جمعت بين الأختين، فقال له الهميم: ما تريد بذلك؟ قال: أريد أن أفسخ نكاحك، لأنك خالفت كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال له: الرسول أذن لي، والشيخ إدريس يعلم ذلك، وكان الشيخ إدريس حاضراً فقال الشيخ إدريس لدشين: أترك أمره وخل بينه وبين ربه. فقال دشين: ما بهمّل أمره، وقد فسخت نكاحه. فقال الشيخ الهميم لدشين: يفسخ جلدك. فيقال أنه مرض مرضاً شديداً حتى تفسخ جلده."

ويجد معاشر اليساريين متعة شديدة في الإستدلال بالقصة إذ أنهم يرونها تعبّر عن أن المزاج الشعبي العام السائد في ذلك الحين والمناوئ للفقهاء من علماء الشريعة هو ما جعل (الأسطورة) تنتصر للشيخ الهميم –ظالماً- مهما كان مخالفاً لظاهر الشريعة ومهما بدى موقف القاضي دشين صائباً متسقاً مع أحكام الشريعة الإسلامية والنصوص القرآنية التي تحرم الجمع بين الأختين إلا ما قد سلف! المهم أن الخيال الشعبي أكمل القصة بأن القاضي دشيناً قد تفسّخ جلده جراء تصديه لشطحات الهميم شيخ الطريقة ومعدن الحقيقة حامل أسرار الشيخ تاج الدين البهاري!

وفيما بدى لي –على قلة نظري غفر الله لي- أن أفتتان العامة من البسطاء بمشايخ الصوفية في ذلك الزمان كون هؤلاء (القوم) قد درجوا على الإتيان بالكرامات وخوارق الأفعال مما لم يكن مألوفاً ولا متاحاً لعلماء الشريعة وهذا ما جعل شيخ الطريقة في نظر العامة أعلى كعباً في الدين وأشد بريقاً من الفقيه الذي ذهب في إتجاه تحصيل العلم الشرعي. وهذا عينه ما جعل الشيخ حمد النحلان الذي بدأ فقيهاً هاجر إلى (مويس) وقرأ مختصر خليل على الفقية محمد ود التنقار ينكص على عقبيه "ويفارق خليل إلى يوم الدين!" ثم يتنحل مذهب المتصوفة. وذاك كما أورد ود ضيف الله في طبقاته: "أن الشيخ حمد النحلان بعد أن عاد من دراسته الفقه وجد أن أخاه "ننه ود الترابي" قطع شوطاً طويلاً في سلك الصوفية وقد رأه النحلان بأم عينه بالهوي "يقذف عصاه من وراء البحر فيطرد عجولاً قد إجتمعت بالضفة الشرقية للنيل على (قش) له تأكله، إلا أن الصدمة التي تلقاها النحلان ومثلت النقطة الفارقة في حياته وانقلابه من تدريس الفقه والعلوم الشرعية إلى التصوف وسلوك الطريق كانت عند مدّ الشيخ "ننه ود الترابي" يده إلى ما وراء البحر فأعاد عصاه التي قذفها! هنا فقط قال النحلان: "سبحان الله لأخي هذا الخير كله وأنا ضيعت عمري في خليل.!.. أنا وخليل إفترقنا إلى يوم الدين." فمنذ ذلك الوقت إشتغل بالطريق وتم له الإجتماع بالسيد الخضر عليه السلام.!

يحمل د. النور حمد على التركية انها جاءت إلى السودان بفقهائها ووعاظها فأدخلت شكلاً جديداً من الدين "المؤسسي الرسمي" وهذه حقيقة تثبتها وقائع التاريخ إذ إصطحبت حملة الفتح عدداً من الفقهاء بمذاهب مختلفة ليسوّقوا وسط السودانيين الخضوع للجيش الغازي وإذ أعبنا على محمد علي باشا توظيف الدين لخدمة السياسة على ذلك النحو فإنه كذلك لا يعسنا إلا أن نعيب على أولئك العلماء قبولهم أن يكونوا أداة في يد الجيش الغازي ليقنعوا الناس بالخضوع للحكم الأجنبي ويزينوا لهم ذلك بأغلفة دينية وهذا هو المأخذ الذي يثبته د. محمد سعيد القدال في تعليقه على تلك الواقعة.

ومايزال العهد التركي يحمل وزره ووزر من عمل بسُنته في تأطير الدين في شكل مؤسسي رسمي وإنتاج علماء وفقهاء سلطان لا شغل لهم سوى إضفاء الأصباغ الدينية على كل ما وافق شهوة الفرعون الحاكم وجارى هواه ولهذا الغرض عينه يرى الأستاذ أبو القاسم حاج حمد أن البريطانيون كما عملوا على إنشاء مدارس توفر للإدارة الإستعمارية ما تحتاجه من موظفين وكوادر وسيطة، كذلك فقد عملوا على إنشاء (مؤسسة دينية) تخرج علماء وفقهاء يدعمون السلطة القائمة. يقول حاج حمد: "ولهذا الغرض أنشات الإدارة الإستعمارية في عام (1902) مجلساً مقره جامع أم درمان أطلقت عليه (لجنة العلماء) وذلك بهدف تركيز فكر سني معارض للصوفية وداعم لمركز علماء الفقه والسنة كغطاء ديني للسلطة البريطانية."

ربما من غير العادل تعميم الحكم بوقوع جميع الفقهاء وعلماء الشريعة تحت طائلة الإستغلال والتوظيف السياسي عبر الحقب المختلفة حيث أن هناك شواهد في التأريخ الإسلامي تنهض مبينة أن هنالك كثير من علماء الشريعة صدعوا بكلمة الحق في وجوه سلاطين الجور غير هيابين من أمثال العالم الجليل سعيد بن جبير آخر من قتل الحجاج بن يوسف، وموقف الإمام أحمد بن حنبل من الخليفة المأمون في قضية خلق القرآن. ولن يعجزنا أن نجد بين الفقهاء والعلماء السودانيين من استنكف عن أن يكون أداة في أيدي الحكام بل كانوا قوامين بالقسط شهداء لله والحق. ولهذا فقد لا تتفق مع القول بأن ذات المؤسسة الفقهية الرسمية هذه التي وفدت مع الأتراك وقواها ودعّمها البريطانيون في السودان هي ذاتها التي "تمكنت واستوطنت حتى انتصرت على مكونات الثقافة السودانية.. حتى غدا الفقيه هو الدولة نفسها..." ولا أعتقد أن هذا التيار "هو الذي عمل على تغيير المزاج الديني وسط السودانيين وهو الذي مهد الطريق لحركة الإخوان المسلمين لتصل إلى السلطة.." تلك كانت جولة لتيار آخر لا يمتد بصلة لذلك الحراك وتلك كرّة أخرى وعمل دؤوب متواصل وجهود في ميادين مختلفة مهدت كلها لصحوة إسلامية كانت تبتغي أن توجه الحياة كلها لله لا تفصل بين السياسة والدين في خلاويه كما يفعل خطأ المتصوفة ولا توظف الدين لخدمة السياسة كما يفعل أصحاب المؤسسة الفقهية الرسمية الذين لا يمكن ان ينالوا شرف المآل الأخير من وصول الحركة الإسلامية السودانية لسدة الحكم، وما ينبغي لهم وما يستطيعون.

غداً نكمل.. إن أحيانا الله وكانت في العمر بقية

مسجد الجامعة .. لا الأذان أذان في منارته ولا الآذان آذان

عبد الحميد أحمد محمد

بين الأمس واليوم

(عذراً... ممنوع الحديث إلا بعد الأستئذان من لجنة المسجد) لافتة بارزة مثبتة يمين المحراب هي أول ما تقع عليه عين الداخل إلى مبنى مسجد جامعة الخرطوم صاحب الصيت والمنبر المفتوح عبر أزمان الصحوة وتعالي تيار الوعي داخل الحركة الإسلامية السودانية، تلك اللافتة تحمل إليك حديث د. عبد الرحيم عمر محي الدين الذي يروي ذكرياته عن (مسجد الجامعة) وكيف أن فرص الحديث كان تؤخذ غلابا، ذلك عندما حاول إبراهيم أحمد عمر القيادي بالحركة الإسلامية ورئيس شعبة الدراسات الإسلامية بالجامعة الجهة التي كان يتبع لها المسجد إدارياً منع الطالب وقتها محمد طه محمد أحمد الذي كان يداوم على تقديم حديث راتب عقب صلاة الجمعة من كل أسبوع ويذكر أنه في بداية الثمانينات وفي أوج صحة العلاقة واستقرارها بين الحركة الإسلامية والنظام المايوي قرر الرئيس نميري زيارة مسجد الجامعة وأداء صلاة الجمعة به وهو ما أعتبره أحمد عمر سبباً كافياً لمنع محمد طه من تقديم حديث قد يسبب إحراجاً للتنظيم مع رئيس الدولة وهنا يقول د. عبد الرحيم محي الدين الذي يصف مسجد الجامعة بأنه مثل في ذلك الوقت مركز إشعاع روحي لتلك الطائفة أو ما مثلته دار الأرقم للمسلمين الأوائل: (أن صراعاً عنيفاً دار حتى أوشك أن يصل درجة الإشباك العنيف بين مجموعتين انقسمت بين رؤى الرجلين)

البداية والتأسيس:

كان مسجد داخلية البركس هو المسجد الوحيد بجامعة الخرطوم ومثل النواة الأساسية حتى تاريخ إفتتاح مسجد الجامعة الماثل اليوم فيما بين العامين (82 – 1983م) وبحسب الدكتور عصمت محمود رئيس قسم الفلسفة بجامعة الخرطوم الذي ارتبط بصلات وثيقة امتدت لما يزيد عن السبع سنوات من الإنقطاع والملازمة بمسجد الجامعة بين الأعوام (87 – 1995) وبذلك فإن د. عصمت يقول أنه وإن لم يكن شاهداً على مرحلة التأسيس إلا أنه ومن خلال إطلاعه على طائفة من الوثائق ومن خلال لقاءاته بالكثيرين ممن أسهموا في تلك المرحلة يجد أن للشهيد الشيخ عبيد ختم بدوي والمرحوم محمد كبير دوراً كبيراً في تلك المرحلة من عمر مسجد الجامعة ويمضي د. عصمت في إفادته قائلاً: (المقترح الأساسي للمسجد حسب التصور الأول كان يضم إلي جانب المسجد ملحقات كالمجمع الطبي والقاعات العامة ومعرض دائم للزى الإسلامي ورياض أطفال، وتقرر أن يتم تشييد المسجد وملحقاته وفق مراحل عدة، ولكن تم إنجاز المرحلة الأولى المتمثلة في المسجد، ولم تر بقية المراحل النور حتى الآن)

التصميم الهندسي لجسم المبنى بسقفه المضلع اختلف حوله الناس حيث رأي بعضهم أن ذلك جعله اشبه ما يكون (بالهنكر) الشئ الذي يفقده كثيراً من الملامح الجمالية رغم أن واجهة المسجد خطط لها أن تبدو لوحة لكتاب مفتوح.. وفي هذا الشأن يقول د. عصمت محمود: (وفق التصور الهندسي للبناء فإن للمسجد مإذنتان تقعان خلف الدرج الصاعد إلى مصلى النساء جنوب وشمال حرم المسجد، وللمزيد حول ذلك التصور يمكن الرجوع إلي (حمدي الاستشارية)، وهذا يشير إلي الخطأ الجسيم الذي أرتكب في حق جمالية التصميم الخاص بالمسجد بتشييد المئذنة الحالية وهي منبتة الصلة عن تصميم المسجد لتحجب الكتاب المفتوح الذي تمثله واجهة المسجد)

رمزية .. دار الأرقم:

د. عبد الرحيم عمر محي الدين يعتقد أن مسجد الجامعة مثل رمزية خاصة في وجدان شباب وشيوخ الحركة الإسلامية السودانية وشهد إخراج مجموعات من الشباب المؤمن الرسالي بدرجة جعلته كدار الأرقم التي أوى إليها المسلمون لأول عهد الدعوة.

إلى ذلك "مثّل المسجد مقراً رئيساً لطلاب الإتجاه الإسلامي بجامعة الخرطوم وظل العمل السياسي والإداري والإعلامي وحتى الأمني ينطلق بصفة أساسية من المسجد والمباني الملحقة به. تجدر الإشارة إلى أن صحيفتا آخر لحظة والصباح الجديد كانتا تصدران في الأحوال العادية من خارج المسجد" هكذا تحدث عصمت محمود الذي يشير إلى الدور التربوي الكبير الذي ظل يؤديه مسجد الجامعة عبر المناشط التقليدية كالصلوات والدروس وحلقات التلاوة والتحفيظ والإفطارات الجماعية وقيام الليل والعمل الصيفي ويمضي محمود في تبيان تلك العوامل التي أضفت على ذلك المسجد كل تلك الرمزية فيقول: "عندما نأخذ في الاعتبار الموقع المتقدم الذي ظل يشغله تنظيم الاتجاه الإسلامي بجامعة الخرطوم بالنسبة إلي منظومة العمل الحركي الإسلامي نستطيع أن ندرك الدور المتعاظم الذي ظل يلعبه هذا المقر تجاه كثير من القضايا الوطنية .

بالنسبة للحركة الإسلامية بصفة عامة وخاصة في فترة الديمقراطية الثالثة فقد كان مسجد الجامعة بمثابة المقر التعبوي الأول، حيث كان منبر المسجد يعبر عن صوت الحركة تجاه القضايا العامة، وهنا تجدر الإشارة إلي الحديث الأسبوعي السياسي للمرحوم محمد طه محمد أحمد الذي يجيء عقب صلاة الجمعة من كلِ أسبوع، ولهذا كان أفراد الحركة الإسلامية يحرصون على حضور الجمعة لمعرفة موقف الحركة تجاه القضايا المستجدة، ومن هنا كانت الجمعة تمثل حشداً ضخماً لعضوية الحركة، ولا غرو أن انطلقت سنة الخروج عبر التظاهرات عقب صلاة الجمعة للتعبير عن مواقف الحركة من مسجد الجامعة."

وبهذا فقد تجاوزت شهرة مسجد الجامعة حدود السودان وأصبح له صيتاً عالمياً جعله قبلة لكل زوار البلاد ممن يصلون بصلة إلى العمل الإسلامي العالمي ويعدد د. عصمت طائفة من أولئك يقول: "استضاف المسجد سائر الحركات الإسلامية في العالم فأعتلى منبره كوكبة من قيادات العالم الإسلامي كنجم الدين أربكان وعبد رب الرسول سياف والأفغاني حكمتيار إضافة إلى راشد الغنوشي والشيخ محمد الغزالي ويوسف القرضاوي وغيرهم..)

بين المنبر والمحراب

الشيخ الشهيد عبيد ختم بدوي، د. التجاني عبد القادر، د. أحمد الحسن البشير، أحمد محجوب حاج نور، أمين بناني، أحمد علي الإمام، إبراهيم السنوسي، الصافي نور الدين والصافي جعفر والنذير الكاروري وعلي محمد علوان. كل هؤلاء وقف على منبر مسجد الجامعة خطيباً وإذ لم يكن هناك إمام واحد بعينه هو المخول بإلقاء خطبة الجمعة وإمامة المصلين هناك فقد ظل المنبر في ذلك الحين مفتوحاً لكل هؤلاء وبنظام يشرحه د. عصمت محمود قائلاً "في إمامة الجمعة كان المعمول به هو نظام الدورات ، فتسند كل أربع جمع إلى احد القيادات الفكرية والروحية للحركة الإسلامية..." ويعدد محمود كل أولئك النفر من الشيوخ. إلا أن د. عبد الرحيم محي الدين يصر على هؤلاء الأئمة والخطباء يجب أن يقسموا إلى تيارين تيار يمثل الثورة والثوار ويقف على رأسه أمين بناني وتجاني عبد القادر وتيار آخر كان يمثل المعتدلين ممن دفعت بهم قيادة الحركة لمنبر المسجد ليكبحوا جماح أولئك الثوار ويمكن أن نعد منهم عبد الرحيم على وحاج نور.

إلا أن د. عصمت الذي ظل ملازماً ذلك المنبر طيلة سنوات يبدو أن له رأياً آخر في تصنيف وإعداد الائمة والخطباء للجمعة فيقول: " لم تكن هناك جهات خارج لجنة مسجد الجامعة تتدخل في اختيار الأئمة على كافة المستويات، ولكن لا بد من الإشارة إلي مواقف تمثل الاستثناء لهذه القاعدة على مستوى إمامة الجمعة وهي التوجيه الذي جاء من الأمانة العامة للتنظيم بالجامعة بخصوص عدم إدراج الأخ أمين بناني وذلك في سياق الحملة التي انتظمت التنظيم لتقليص تمدد الفكر الشيعي وسط عضوية التنظيم والحالة الثانية مع محمد عثمان محجوب في سياق انتقاداته الحادة لصندوق الزكاة.."

لاحقاً وفي اوقات متأخرة من التسعينات وجد شباب من المتاخرين فرصاً في المنبر العتيد ولا تزال أصداء خطبة الشهيد على عبد الفتاح الأخيرة بمسجد الجامعة أثناء الهجوم اليوغندي في العام 1997 ماتزال اصداءها ترن في آذان الكثيرين ممن شهدوا تلك الجمعة الأخيرة للشهيد علي بجامعة الخرطوم (يا اهل المدينة لا مدينة لكم اليوم وإنما الله والجنة...)

غير ذلك فقد كان أمر إمامة الصلاة الراتبة يسند لأحد طلاب الجامعة ممن يتحلون بنداوة الصوت وحسن التلاوة أمثال دفع الله بخيت وسامي إبراهيم بشير وعلي محمود وعبد الكريم محمد عبد القادر وشيخ يعقوب الذي تعود أصوله إلى أم حجر بتشاد.

غير أن بعض الأئمة قد إرتبط اسمهم بذلك المنبر واشتهروا من خلاله وجمعتهم إليه علائق وثيقة. أمر يؤكده عصمت محمود ويذكر منهم "مولانا احمد محجوب حاج نور الذي كان لصيق الصلة بعمل اللجنة ودأب على الدوام في حشد الدعم للمسجد، وكذلك المهندس الصافي نور الدين الذي ظل دائم البذل من ماله الخاص لدعم مناشط اللجنة، وأذكر أن تكاليف البرنامج التربوي الأسبوعي كانت تدفع بصورة راتبة من قبل الصافي نور الدين." ويؤكد د. عصمت أن سنة الصلاة بجزء من القرآن في صلاة التراويح أثناء شهر رمضان قد إنطلقت في السودان بالأساس من مسجد الجامعة الذي شهد التهجد في العشر الأواخر طيلة حقبة الثمانينيات.

الترابي في مسجد الجامعة

"لا أذكر أن الدكتور حسن الترابي قد وقف خطيب جمعة في مسجد الجامعة؛ وإن كان على فترات يحرص على حضور الجمعة بالمسجد، بيد أنه دائما ما كان يعقب بكلمة موجزة لكافة عقود الزواج التي كان يتولاها بالمسجد، وهو ذات الموقف الذي نجده عند علي عثمان الذي كان يؤم المصلين في مسجد الصحافة شرق وكان يلبي على الدوام دعوة الحضور للمدارسة في الجلسات الإيمانية التي كانت تقام ضمن برنامج ليلة الجمعة التربوي" هكذا وصف د. عصمت محمود مشاركات الشيخ الترابي في مناشط مسجد الجامعة إلا أنه أكد كذلك على تعدد مشاركاته في عدد من الندوات التي أقيمت بذلك المسجد.

ويذكر منشد الإسلاميين الأول زين العابدين طه في معرض حديثه عن الشعر والأدب الجهادي (أن الإسلاميين أقبلوا على وسائل التعبير الشعري بكثير من التوجس والتردد وأن ذلك التحفظ تجاه الشعر والفنون عامة لم ينكسر إلا بعد المحاضرة الشهيرة التي قدمها الشيخ الترابي بمسجد الجامعة وأدار فيها حواراً عميقاً (بين الدين والفن).. وقال الشيخ الترابي في تلك الليلة أن حديثه يهدف لتجاوز عزة المناظرة وحمية المغالبة (بين الدين والفن) إلى مرجع ومتاب. ولم يغفل الترابي الإشارة إلى حساسية الموضوع بالنسبة لرمزية المسجد الذي دارت فعالية الندوة من داخله فقال: (ودوران الحوار في هذا المصلى المبارك بمنحى توفيقي إيجابي ذو دلالة عظيمة، فالصلاة عملاً هي رمز الدين وعماده والمسجد موقعاً هو أيضاً رمز الدين وقاعدته، وقديماً دخل الأحباش إلى المسجد يعرضون فنهم بين يدي أمام الدين الرسول (ص) وأراد قوم أن يحصبوهم عنه ليعزلوا لهو الفن عن وقار الدين. ولكن الرسول الكريم (ص) تجاوب معهم إيجاباً "إيه يا بني رفده...")

وينظر كثير من الإسلاميين إلى تلك المحاضرة على أنها كانت المنطلق الذي غادر منه التنظيم الإسلامي محطة ازدراء الفن والفنون. على حين يذكر زين العابدين طه أنه بعدها كان قد تحلل من تلك النظرة القاصرة فجاء يسعي داخلاً إلى مسجد الجامعة وهو يحمل قيثارته قبل أن يتصدى له أحد المتشددين السلفيين وهو يسأله مستنكراً إن كان يريد الدخول إلى المسجد بآلة موسيقية؟ ويقول طه أنه أجاب الرجل المتشدد (بأنه يريد أن يدخل الجنة بقيثارته تلك وليس المسجد فقط.)

الإنقسام داخل المسجد

أواخر يوليو (2000) وصل الخلاف والإنقسام في الحركة الإسلامية السودانية إلى الذروة بإعلان حزب جديد هو (المؤتمر الوطني الشعبي) وفي أول جمعة بعد إعلان الشعبي جاء الشيخ الصافي نور الدين يؤم المصلين ويقرأ (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين)

وتمضي الأحداث ذلك النهار صاخبة والأستاذ أبو بكر المحامي يقرأ بيان تأسيس المؤتمر الشعبي من داخل المحراب مستهلاً حديثه بدعاء (الخلاء) "الحمد لله الذي أخرج عنا الأذى وعافانا"

وقد بدى واضحاً للحكوميين أن مسجد الجامعة أصبح بعد مفاصلة الإسلاميين يمثل معسكراً للمناصرين للمنشية هكذا عبر د. عبد الرحيم محي الدين (بعد غلبة الشعبي بمسجد الجامعة أخذته الحكومة بسلطاتها وراقبته وفرضت به إماماً راتباً.)

د. محي الدين يؤكد أنه شهد سلطات الأمن الحكومي تأخذ الإسلاميين وتعتقلهم من داخل مسجد الجامعة وبذلك تفرق الشمل وذهبت الريح وما زال مسجد جامعة الخرطوم يقف محزوناً مغلقاً موصداً حتى الدقائق القليلة ما قبل إقامة الصلاة يغلب صرير مراوح الهواء فيه على أصوات التالين لكتاب الله ليس في محرابه أو مصلاه (مروان) وقد تبدل مسجداً محزوناً (لا الأذان أذان في منارته إذا تعالى ولا الآذان آذان)

(دفاتر) الرأسمالية واجهات السياسة سياسة أم تجارة

عبد الحميد أحمد محمد

(الفيحاء).. المبتدأ:

(من هنا يدار إقتصاد السودان...) إشارة ذكية كان السودانيون يطلقونها السنوات الأخيرة من ثمانينيات القرن المنصرم وهم يمرون من أمام عمارة الفيحاء العملاقة، وكانت الإشارة إلى الرأسماليين وأصحاب المال من رجال الجبهة الإسلامية القومية العاملون بقطاعها وواجهاتها الإقتصادية الذين اتخذوا من (الفيحاء) مقراً ومركزاً لهم ضم العديد من بنوكهم واستثماراتهم وشركاتهم التجارية.

المخيلة الشعبية لدى العامة لم تقتصر الأمر على تلك الإشارة العابرة فقط وإنما انطلقت مدفوعة بمدد من أعداء الإسلاميين ومعارضيهم من تيارات اليسار تصوغ السيناريوهات التى تحدد العلاقة وترسم تقاطعات المال والسياسة في السودان إلى درجة جعلت من مؤسسات الجبهة الإسلامية الإقتصادية (مافيا) تشتري المواد التموينية من سكر ودقيق وذرة لتلقي بها في النيل حتى تختلق نوعاً من الندرة يعقبها غلاء يزلزل أركان الحكومة القائمة بإثارة غضب الجماهير عليها.

الغاية والوسيلة:

منذ ذلك الوقت المبكر من الثمانينات برز رجال المال والمستثمرون ذوو الصلات بالجبهة الإسلامية وارتبطت اسماءهم بمؤسسات إقتصادية معينة مثل بنك فيصل الإسلامي وشركة التأمينات الإسلامية وشركة التنمية العقارية . ولكن المهم في الأمر هو ما حقيقة أن أولئك النفر من (الرأسماليين الجدد) قد توسعوا في أنشطتهم التجارية وأثروا ثراء فادحاً من خلال إستغلالهم لعلاقات (التنظيم) وأمواله وإمكاناته العامة التي استطاعوا تسخيرها وتذليلها لمصلحتهم الخاصة حتى اثروا واغتنوا تاركين تنظيمهم فقيراً على قارعة الطريق على حد وصف المفكر الإسلامي د. التيجاني عبد القادر القيادي البارز بالحركة الإسلامية السودانية الذي أقر بأن التنظيم الإسلامي أنشأ تلك الأذرع الإقتصادية كوسائل يستطيع من خلالها تحقيق التحرر والنهضة الإجتماعية الإسلامية قبل أن يفرض (العاملون عليها) أجندتهم الخاصة. يقول التيجاني: (التنظيم الدقيق والمال الوفير وسيلتان أساسيتان من وسائل التحرر والنهضة الإجتماعية الإسلامية، ولكن لا ينبغى للوسيلة "التنظيم" أن تتحول الى هدف، كما لا ينبغى أن تكون للعاملين على تحقيق هذه الوسائل "أجندة خاصة"، كأن يتحولوا هم الى أغنياء ثم يتركوا التنظيم والمجتمع فى قارعة الطريق...)

الأثرياء الجدد:

والسؤال المباشر الذي يتولد من خلال النظر في حديث د. التيجاني عبد القادر هو كيف تم تحويّر تلك الوسائل وجعلها غايات قصوى ثم كيف تحول أؤلئك إلى أغنياء مستثمرين طاقات التنظيم – على حد وصف د. التجاني عبد القادر – الذي يقدم هو نفسه إجابة سريعة على تلك التساؤلات قائلاً (عن طريق السلفيات طويلة الأجل، والقروض الميسرة، والمعلومات الكاشفة لأوضاع السوق ولفرص الإستثمار) ويستطرد في شرحه للكيفية التي أثرى بها البعض على حساب التنظيم الإسلامي قائلاً: (السيد (اكس) ليس هو التاجر المجرد، وانما هو تاجر"إسلامى"، وهو حينما يذهب الى موظفى البنك "الاسلامى"، أو الى العاملين فى مرافق الدولة لا يذهب كما يذهب عامة التجار وانما يذهب ومعه هالة التنظيم، ليتوصل الى مصالحه الخاصة، وهذا هو مربط الفرس وبيت القصيد، أى أن "المصالح الخاصة" التى تتخذ لها غطاء من "التنظيم" هى محل الإشكال وموضع النظر..)

أن يدخل الفقراء إلى نادي رجال المال والأعمال عن طريق السياسة ودروبها كما شرح التجاني عبد القادر أمر قد يبدو مفهوماً ولكن المستغرب هو أنقلاب الأمر بولوج أولئك الذين استمدوا شهرتهم بالأساس على أنهم رجال مال وأعمال وينصرفون جاهدون لإضفاء طابع سياسي على شخوصهم وذواتهم من خلال الإتصال بالتناظيم السياسية أو الحكومات.

وضع غير طبيعي:

جمال محمد على أستاذ علم الإجتماع بالجامعات السودانية يؤكد في حديثه (للحرة) على غرابة إتجاه رجال الأعمال الناجحون إلى ميادين السياسة أو الرياضة أو الفن ويقول: (هؤلاء غير محتاجين لذلك وإن كان ثمة أوقات فراغ فأعتقد أنه كان يجب عليهم إستثمارها في الأنشطة الخيرية وعمليات دعم المجتمع .. هذا هو الوضع الطبيعي. ويستدرك محمد علي قائلاً أحياناً يمكن أن يكون ذلك النزوع نحو السياسة أو الرياضة لتحقيق الشهرة أو إستثمار تلك العلاقة لتحقيق مزيد من الأرباح والتسهيلات.

رجال مال وأعمال سودانيون (صلاح إدريس ، جمال محمد عبد الله، أشرف الكاردينال، أبناء البرير، ود الجبل) برزوا بالأساس وعرفوا بهذه الصفة غير أنهم وفي وقت معين بدأوا يتجهون لميادين السياسة ويتنقلون بين أحزابها.. سألنا أستاذ علم الاجتماع جمال علي عن الدوافع التي يمكن أن تقود هؤلاء لولوج ذلك المضمار فقال: (مثل هذا السلوك يمكن أن لا يكون ذاتياً وإنما بدفع من المحيطين بأولئك الرجال يريدون أن يترفعوا من خلالهم أو يحتموا بهم.. ويضرب محمد على مثالاً برفيق الحريري ودخوله للسياسة من أجل حماية مجموعة إقتصادية، وتورط في الأمر حتى أدي لوفاته على تلك الصورة. أما الخبير الإقتصادي د. محمد سر الختم فينظر إلى التلاقي والتداخلات بين رجال المال والسياسة على أنها (تكامل طبيعي.. وأي خطوة سياسية تحتاج للمال وتنشأ علاقة بين هؤلاء على أن تتم خدمات متبادلة)

صقر.. وكاردينال:

أشرف سيد أحمد الحسين (الكردينال) اسم برز من تحت غبار كثيف أثارته في وقت سابق (سيارات لاندكروزر) مستجلبة لصالح حكومة جنوب السودان واقترن اسم الكادرينال بصفقة السيارات الشهيرة تلك التي لم تلبث أن أحدثت زلزالاً عصف بوزراء ومسئولين كبار من كراسي الحكم والوزارة بالجنوب، وقد كان أحد أطراف تلك العملية التجارية عضو سابق بمجلس قيادة الإنقاذ تواترت الأنباء أن تلك العملية قد ألقت به وراء القضبان.

من تحت كل ذلك الركام والغبار الجنوبي خرج أشرف الكاردينال وهو يتطلع لموقع الرئاسة في أحد الأندية الرياضية بالخرطوم ويطرح نفسه منافساً على موقع الرجل الأول فيه ولكن يبدو أن الرياح دائماً تجري بما لا تشتهي سفن (الكاردينال) التي قبل أن تتهيأ لها سبل الرسو قبالة شواطئ النادي الهلالي أتتها رياح (صقر قريش) لتعيد إلى الأذهان من جديد قصة رجل يلفه الضباب وتحيط بأعماله الكثير من علامات الإستفهام. وكانت محكمة الجمارك الجنائية قد حكمت بداية العام (2001) على أربعة متهمين بينهم أشرف سيد احمد الحسين بالسجن (6) أشهر والغرامة (24.000.000 دينار) ضمن حيثيات قضية متعلقة بتخليض بضائع من الجمارك لصالح شركة صقر قريش.

تقاطعات السياسة والإقتصاد تبدو واضحة في (رواية الكاردينال) الذي تتداول بعض الأوساط أحاديث عن تحالف يجمعه إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان غير أن المفاجأة في علاقات الرجل بالسياسيين كان ظهوره على مائدة الرئيس ضمن كوكبة من رجال المال والمجتمع دعاهم البشير إلى مائدته الرمضانية خلال الشهر الكريم غير أن الذي سلّط الأضواء على (الكاردينال) بصورة واضحة هو الجدل الذي تصاعد أعقاب إبطال (النائب العام) أمراً بالقبض على رجل الأعمال المثير للجدل بعد أن لجأ مفوض شركة صقر قريش السيد صلاح عبد الله إلى القضاء مطالباً برد مديونية على الكاردينال بلغت (مليار وتسعمائة ألف جنية سوداني) قضية ماتزال فصولها متصلة.

والي .. وأرباب:

سنوات التسعينات جاء (صلاح إدريس) مصحوباً بهالة من الضوضاء تكاد تصوره قادراً على شراء كل المؤسسات الوطنية التي بدأت الحكومة تقرع أمامها (أجراس البيع) في مسعاها للخصخصة، غير أن إدريس ما لبث أن اعتورت استثماراته -بحسب إقتصاديين ومراقبين - بعض العوائق وبدى نشاطه الرياضي من خلال نادي الهلال طاغياً على سيرته لاسيما أن الرجل أضاف لذلك توجهات فنية تتعلق بالموسيقى.. التجربة الكلية لإدريس يصفها أستاذ علم الإجتماع جمال محمد على بأنها تنطلق من طموحات الرجل الكبيرة ليعود ويقول: (أعتقد أنها تتسم بشكل من أشكال الإدعاء.. أعتقد أنها تجربة غير مريحة.)

تجربة إدريس (غير المريحة) برأي محمد علي كان لها إفرازات على المستوى الإقتصادي والرياضي إذ خرج رجل الأعمال الآخر جمال محمد عبد الله (الوالي) الذي عرف بأنه خرج من عباءة أدريس وأحد تلامذته، إلا أن المفارقة كانت بإنتماء الوالي للحزب الوطني الحاكم بينما عرف الأول على أنه قيادي بالحزب الإتحادي الديمقراطي.

إنتماء الوالي للحزب الحاكم جعل ثمة تهمة تدور حول أعماله التجارية التي يجزم الكثيرون بأنها إستثمارات تنظيمية وواجهة للحزب الحكومي لعله الأمر الذي جعل الرئيس البشير يدافع عنه في جلسة جمعته مع صحافيين مشاركين في ملتقى الإعلاميين العاملين بالخارج بحر هذا العام بقوله (أنا أعلم الناس بأوضاع جمال الوالي وهو ليس ثري ولكنه سخي...)

سخي وليس ثري حديث يبقي معه السؤال مطروحاً حول إمكانية أن يكون (الوالي) مستثمراً حزبياً، وحقيقة الرأسماليين الحزبيين في السودان؟ الخبير الإقتصادي د. محمد سرالختم قطع في حديث مع (الحرة) بوجود تلك الظاهرة قائلاً: (هي ظاهرة حقيقية وموجودة منذ عهود .. التنظيم السياسي لا بد له أن يخلق رأس مال وغالباً لا يسجل باسمه حتى يكون في مأمن من تقلبات الأوضاع السياسية وإنما يسجل باسم أحد أعضاء التنظيم المعين وهو يدير هذا المال الذي يعود ريعه وربحه على التنظيم ولكن تبقى المشكلة أنه إذا حدثت إي (ربكة) لهذا التنظيم أو إنفرط يذهب المال قانوناً إلى ذلك المستثمر) ويرأي سرالختم (أن السودان يعاني من هذا النوع من الرأسماليين خاصة في هذا العهد وأجد أن هذا يضر بالأقتصاد الوطني ويشوهه لأنه يرتبط بمصلحة شخصية حزبية وعقليات مغلقة).

بنظر الكثيرين فإن السياسة تتأثر في كل مكان وزمان بتدخلات المال وذلك عندما لا تبنى السياسة على قيم ومبادئ فاضلة وإنما تخضع للمصالح ولئن كان السودان قد عرف استثمار السياسة لتحصيل المال وتحقيق الثراء فالسودان لا يزال إلى حد ما بعيداً عن مخاطر تزايد نفوذ أصحاب المال على السياسة وفرض أجنادتهم بما يمثل خطورة على المجتمعات كما هو الحال في أمريكا.

فاز (طلّاب السلطة) .. سقط الإسلاميون!

عبد الحميد أحمد محمد

شغلتنا الأسفار وألهتنا وحالت دون أن نكتب عن (سقوط) إتحاد جامعة الخرطوم، ولكن هي كلمة لا بد أن نقولها – ولو بعد حين - تعقيباً على كلمات المحتفلين، منذ أداء صلاة (الفجر الكاذب) بمحراب عبيد الشهيد وحتى وضوء (المستقطبين) الطامحين إلى عرض الدنيا الزائل والناكصون يوم تراءت الفئتان، من جماعة (أصنع ما تشاء)

إن الأمر يا سادتي لا يستحق تهافت كل هؤلاء (الكبار) والمتكبرين وقد يتساءل لذلك سائل وما الذي حدث..؟ فنقول لا شئ البتة، سوى أن منبراً طلابياً سقط أسيراً في وطن أسير.

وبعض ما حفظناه وسنظل نردده عن الشهيد مرتضى عبد السلام صاحب (السائحون) وفارس الميل (72) المهيب قوله لأحد الفرحين -الذين لا يحبهم الله- من أهل الجلاليب الرهاف والذمم الخفاف، وكان قد جعل - اواسط عقد التسعينات - الدخول إلى المجلس الوطني غاية والإلتحاق بالبرلمان (أسمى أمانيه) حتى إذا حاز ما أراد وتم له المراد طرق السائح الشهيد بابه ليلاً وقد خرج الرجل يظنه مهنيئاً ومباركاً الفوز والنصر الكبير لا سيما وأن بيت السيد (نائب الدائرة) قد فاح بالذبائح من كل صنف وكل نوع ومازال دم (الكرامة) الذبيحة مسفوكاً على قارعة الطريق رطباً طرياً أمام باب داره.. إلا أن الشاب الرسالي الشامخ بكبرياء الشهداء قال كلمته في أدب وفي فرط احتشام (لقد فزت أنت يا فلان .. وسقطت الحركة الإسلامية.) ومضى حتى ونجبول والقادسية ويوم الشهادة الأكبر وترك لنا عَبرة وعِبرة.

وماذا يجدي إتحاد جامعة الخرطوم يا هؤلاء في زمان الخيبات الكبار وبعد أن حمل الحصان الخشبي إلى داخل القلعة الحصينة وتسلل في جوفه المختبئون الغادرون والمستقطبون الطلقاء يفتكون بالحراس من الابكار وأهل الفكرة والسابقة ويفتحون أبواب "طروادة" أمام جحافل التتار، وقد عزّ النصير.

وماذا يجدي إتحاد جامعة الخرطوم وقد مضى "ود المكي" وعاد نعشاً من المنفى ما يزال محمولاً على الأعناق وكأنه يستشرف الخرطوم بقول المصطفى الحزين يوم خروجه من مكة مهاجراً: "لولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت"، وغادر التجاني عبد القادر صاحب الفكرة والرؤية والعبقرية وهو يتمثل قوله تعالى: "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها..." وكان قد سبقهم جميعاً عبيد ختم بدوي الأمين الأمين وصاحب المقر (قم).

كلهم مضى – خرجوا وأخرجوا – وبقى أصحاب البطولات الزائفة والمجاهدات (الفالصو) التي هي أهون من تثبيت وتعليق صحيفة حائطية اسمها (آخر لحظة) على جدار محروس بالديدبان يشبه يومه الحاضر ليلته البارحة وأسألوا إن شئتم جيل السبعينات من طلاب جامعة الخرطوم إسألوا ربيع عبد العاطي أو فأسألوا مهدي إبراهيم إن فتح الله عليه بكلمة حق وعدل وانعتاق تضع عنه إصره والأغلال التي عليه وقد أنقضت ظهره وحولته إلى محض (مذيع داخلي) لمهرجانات وأحتفالات يوم الزينة والنيروز الرسمية و(الوطنية) في زمان السقوط الكبير.

إن أكثر ما يخجل في هذا الزمان البئيس كثير السوءات أن يقف أحد المستقطبين الجدد بالميدان الشرقي ليعبر عن فرحة مصطنعة كذوب وهو يقول: " إن إتحاد جامعة الخرطوم قد توضأ اليوم .." لنقول وهذه قطرات وضوئك ما تزال تقطر لم تجف بعد، فهل سبقته إلا بشهر أو شهرين أم بعام أم بعامين..؟ إذن فقد عاش وعشت كلاكما – الإتحاد وانت – دهراً طويلاً في رجسه ودنسه حتى يتطهر ويتوضأ على أيدي حفنة من الصبية و(طلاب السلطة) ممن لا يصلحون لرفع شعار قديم أو كتابة كلمة (شورى) على الوجه الصحيح، الراكضون في ماراثون التسابق إلى لعاعة الدنيا الدنيئة.

يا أخي إن بعض ما أدركه الناس من كلام النبوة.." إذا لم تستح فاصنع ما تشاء" ومن كلام الحكماء "يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء." أما وقد سقط اللحاء فليس إلا ثمة أعجاز منقعرة على شفا جرف هار لا يلبث أن ينهار بها في نار جهنم وبيئس المصير، وما نزال ننتظر الدور لنلقي كلمتنا قبل أن ينفض السامر وتنفض المأدوبة وترفع الصحاف و(طست الوضوء) النجس.. لنقولها وإن خرقنا البرتكول وتجاوزنا مراسم (الكبار).

ستبقى المسافة بين الإتجاه الإسلامي الذي بناه الرجال في عهود الصدق والطهر والتجرد، وشادوا صروحه وحازوا به المنابر والنقابات بجامعة الخرطوم وغيرها من الساحات، وقادوا به المعركة تلو المعركة وخرجوا ظافرين وطاهرين، تبقى المساحة بين أولئك وهؤلاء بقدر الفواصل التي يرسمها الإمام علي كرم الله وجهه وهو يقول: "ليس من طلب الحق فأخطأ سبيله كمن طلب الباطل فأدركه." وثمة كلمة أخيرة:

فاز (طلاب السلطة) .. سقط الإسلاميين.