(دفاتر) الرأسمالية واجهات السياسة سياسة أم تجارة

عبد الحميد أحمد محمد

(الفيحاء).. المبتدأ:

(من هنا يدار إقتصاد السودان...) إشارة ذكية كان السودانيون يطلقونها السنوات الأخيرة من ثمانينيات القرن المنصرم وهم يمرون من أمام عمارة الفيحاء العملاقة، وكانت الإشارة إلى الرأسماليين وأصحاب المال من رجال الجبهة الإسلامية القومية العاملون بقطاعها وواجهاتها الإقتصادية الذين اتخذوا من (الفيحاء) مقراً ومركزاً لهم ضم العديد من بنوكهم واستثماراتهم وشركاتهم التجارية.

المخيلة الشعبية لدى العامة لم تقتصر الأمر على تلك الإشارة العابرة فقط وإنما انطلقت مدفوعة بمدد من أعداء الإسلاميين ومعارضيهم من تيارات اليسار تصوغ السيناريوهات التى تحدد العلاقة وترسم تقاطعات المال والسياسة في السودان إلى درجة جعلت من مؤسسات الجبهة الإسلامية الإقتصادية (مافيا) تشتري المواد التموينية من سكر ودقيق وذرة لتلقي بها في النيل حتى تختلق نوعاً من الندرة يعقبها غلاء يزلزل أركان الحكومة القائمة بإثارة غضب الجماهير عليها.

الغاية والوسيلة:

منذ ذلك الوقت المبكر من الثمانينات برز رجال المال والمستثمرون ذوو الصلات بالجبهة الإسلامية وارتبطت اسماءهم بمؤسسات إقتصادية معينة مثل بنك فيصل الإسلامي وشركة التأمينات الإسلامية وشركة التنمية العقارية . ولكن المهم في الأمر هو ما حقيقة أن أولئك النفر من (الرأسماليين الجدد) قد توسعوا في أنشطتهم التجارية وأثروا ثراء فادحاً من خلال إستغلالهم لعلاقات (التنظيم) وأمواله وإمكاناته العامة التي استطاعوا تسخيرها وتذليلها لمصلحتهم الخاصة حتى اثروا واغتنوا تاركين تنظيمهم فقيراً على قارعة الطريق على حد وصف المفكر الإسلامي د. التيجاني عبد القادر القيادي البارز بالحركة الإسلامية السودانية الذي أقر بأن التنظيم الإسلامي أنشأ تلك الأذرع الإقتصادية كوسائل يستطيع من خلالها تحقيق التحرر والنهضة الإجتماعية الإسلامية قبل أن يفرض (العاملون عليها) أجندتهم الخاصة. يقول التيجاني: (التنظيم الدقيق والمال الوفير وسيلتان أساسيتان من وسائل التحرر والنهضة الإجتماعية الإسلامية، ولكن لا ينبغى للوسيلة "التنظيم" أن تتحول الى هدف، كما لا ينبغى أن تكون للعاملين على تحقيق هذه الوسائل "أجندة خاصة"، كأن يتحولوا هم الى أغنياء ثم يتركوا التنظيم والمجتمع فى قارعة الطريق...)

الأثرياء الجدد:

والسؤال المباشر الذي يتولد من خلال النظر في حديث د. التيجاني عبد القادر هو كيف تم تحويّر تلك الوسائل وجعلها غايات قصوى ثم كيف تحول أؤلئك إلى أغنياء مستثمرين طاقات التنظيم – على حد وصف د. التجاني عبد القادر – الذي يقدم هو نفسه إجابة سريعة على تلك التساؤلات قائلاً (عن طريق السلفيات طويلة الأجل، والقروض الميسرة، والمعلومات الكاشفة لأوضاع السوق ولفرص الإستثمار) ويستطرد في شرحه للكيفية التي أثرى بها البعض على حساب التنظيم الإسلامي قائلاً: (السيد (اكس) ليس هو التاجر المجرد، وانما هو تاجر"إسلامى"، وهو حينما يذهب الى موظفى البنك "الاسلامى"، أو الى العاملين فى مرافق الدولة لا يذهب كما يذهب عامة التجار وانما يذهب ومعه هالة التنظيم، ليتوصل الى مصالحه الخاصة، وهذا هو مربط الفرس وبيت القصيد، أى أن "المصالح الخاصة" التى تتخذ لها غطاء من "التنظيم" هى محل الإشكال وموضع النظر..)

أن يدخل الفقراء إلى نادي رجال المال والأعمال عن طريق السياسة ودروبها كما شرح التجاني عبد القادر أمر قد يبدو مفهوماً ولكن المستغرب هو أنقلاب الأمر بولوج أولئك الذين استمدوا شهرتهم بالأساس على أنهم رجال مال وأعمال وينصرفون جاهدون لإضفاء طابع سياسي على شخوصهم وذواتهم من خلال الإتصال بالتناظيم السياسية أو الحكومات.

وضع غير طبيعي:

جمال محمد على أستاذ علم الإجتماع بالجامعات السودانية يؤكد في حديثه (للحرة) على غرابة إتجاه رجال الأعمال الناجحون إلى ميادين السياسة أو الرياضة أو الفن ويقول: (هؤلاء غير محتاجين لذلك وإن كان ثمة أوقات فراغ فأعتقد أنه كان يجب عليهم إستثمارها في الأنشطة الخيرية وعمليات دعم المجتمع .. هذا هو الوضع الطبيعي. ويستدرك محمد علي قائلاً أحياناً يمكن أن يكون ذلك النزوع نحو السياسة أو الرياضة لتحقيق الشهرة أو إستثمار تلك العلاقة لتحقيق مزيد من الأرباح والتسهيلات.

رجال مال وأعمال سودانيون (صلاح إدريس ، جمال محمد عبد الله، أشرف الكاردينال، أبناء البرير، ود الجبل) برزوا بالأساس وعرفوا بهذه الصفة غير أنهم وفي وقت معين بدأوا يتجهون لميادين السياسة ويتنقلون بين أحزابها.. سألنا أستاذ علم الاجتماع جمال علي عن الدوافع التي يمكن أن تقود هؤلاء لولوج ذلك المضمار فقال: (مثل هذا السلوك يمكن أن لا يكون ذاتياً وإنما بدفع من المحيطين بأولئك الرجال يريدون أن يترفعوا من خلالهم أو يحتموا بهم.. ويضرب محمد على مثالاً برفيق الحريري ودخوله للسياسة من أجل حماية مجموعة إقتصادية، وتورط في الأمر حتى أدي لوفاته على تلك الصورة. أما الخبير الإقتصادي د. محمد سر الختم فينظر إلى التلاقي والتداخلات بين رجال المال والسياسة على أنها (تكامل طبيعي.. وأي خطوة سياسية تحتاج للمال وتنشأ علاقة بين هؤلاء على أن تتم خدمات متبادلة)

صقر.. وكاردينال:

أشرف سيد أحمد الحسين (الكردينال) اسم برز من تحت غبار كثيف أثارته في وقت سابق (سيارات لاندكروزر) مستجلبة لصالح حكومة جنوب السودان واقترن اسم الكادرينال بصفقة السيارات الشهيرة تلك التي لم تلبث أن أحدثت زلزالاً عصف بوزراء ومسئولين كبار من كراسي الحكم والوزارة بالجنوب، وقد كان أحد أطراف تلك العملية التجارية عضو سابق بمجلس قيادة الإنقاذ تواترت الأنباء أن تلك العملية قد ألقت به وراء القضبان.

من تحت كل ذلك الركام والغبار الجنوبي خرج أشرف الكاردينال وهو يتطلع لموقع الرئاسة في أحد الأندية الرياضية بالخرطوم ويطرح نفسه منافساً على موقع الرجل الأول فيه ولكن يبدو أن الرياح دائماً تجري بما لا تشتهي سفن (الكاردينال) التي قبل أن تتهيأ لها سبل الرسو قبالة شواطئ النادي الهلالي أتتها رياح (صقر قريش) لتعيد إلى الأذهان من جديد قصة رجل يلفه الضباب وتحيط بأعماله الكثير من علامات الإستفهام. وكانت محكمة الجمارك الجنائية قد حكمت بداية العام (2001) على أربعة متهمين بينهم أشرف سيد احمد الحسين بالسجن (6) أشهر والغرامة (24.000.000 دينار) ضمن حيثيات قضية متعلقة بتخليض بضائع من الجمارك لصالح شركة صقر قريش.

تقاطعات السياسة والإقتصاد تبدو واضحة في (رواية الكاردينال) الذي تتداول بعض الأوساط أحاديث عن تحالف يجمعه إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان غير أن المفاجأة في علاقات الرجل بالسياسيين كان ظهوره على مائدة الرئيس ضمن كوكبة من رجال المال والمجتمع دعاهم البشير إلى مائدته الرمضانية خلال الشهر الكريم غير أن الذي سلّط الأضواء على (الكاردينال) بصورة واضحة هو الجدل الذي تصاعد أعقاب إبطال (النائب العام) أمراً بالقبض على رجل الأعمال المثير للجدل بعد أن لجأ مفوض شركة صقر قريش السيد صلاح عبد الله إلى القضاء مطالباً برد مديونية على الكاردينال بلغت (مليار وتسعمائة ألف جنية سوداني) قضية ماتزال فصولها متصلة.

والي .. وأرباب:

سنوات التسعينات جاء (صلاح إدريس) مصحوباً بهالة من الضوضاء تكاد تصوره قادراً على شراء كل المؤسسات الوطنية التي بدأت الحكومة تقرع أمامها (أجراس البيع) في مسعاها للخصخصة، غير أن إدريس ما لبث أن اعتورت استثماراته -بحسب إقتصاديين ومراقبين - بعض العوائق وبدى نشاطه الرياضي من خلال نادي الهلال طاغياً على سيرته لاسيما أن الرجل أضاف لذلك توجهات فنية تتعلق بالموسيقى.. التجربة الكلية لإدريس يصفها أستاذ علم الإجتماع جمال محمد على بأنها تنطلق من طموحات الرجل الكبيرة ليعود ويقول: (أعتقد أنها تتسم بشكل من أشكال الإدعاء.. أعتقد أنها تجربة غير مريحة.)

تجربة إدريس (غير المريحة) برأي محمد علي كان لها إفرازات على المستوى الإقتصادي والرياضي إذ خرج رجل الأعمال الآخر جمال محمد عبد الله (الوالي) الذي عرف بأنه خرج من عباءة أدريس وأحد تلامذته، إلا أن المفارقة كانت بإنتماء الوالي للحزب الوطني الحاكم بينما عرف الأول على أنه قيادي بالحزب الإتحادي الديمقراطي.

إنتماء الوالي للحزب الحاكم جعل ثمة تهمة تدور حول أعماله التجارية التي يجزم الكثيرون بأنها إستثمارات تنظيمية وواجهة للحزب الحكومي لعله الأمر الذي جعل الرئيس البشير يدافع عنه في جلسة جمعته مع صحافيين مشاركين في ملتقى الإعلاميين العاملين بالخارج بحر هذا العام بقوله (أنا أعلم الناس بأوضاع جمال الوالي وهو ليس ثري ولكنه سخي...)

سخي وليس ثري حديث يبقي معه السؤال مطروحاً حول إمكانية أن يكون (الوالي) مستثمراً حزبياً، وحقيقة الرأسماليين الحزبيين في السودان؟ الخبير الإقتصادي د. محمد سرالختم قطع في حديث مع (الحرة) بوجود تلك الظاهرة قائلاً: (هي ظاهرة حقيقية وموجودة منذ عهود .. التنظيم السياسي لا بد له أن يخلق رأس مال وغالباً لا يسجل باسمه حتى يكون في مأمن من تقلبات الأوضاع السياسية وإنما يسجل باسم أحد أعضاء التنظيم المعين وهو يدير هذا المال الذي يعود ريعه وربحه على التنظيم ولكن تبقى المشكلة أنه إذا حدثت إي (ربكة) لهذا التنظيم أو إنفرط يذهب المال قانوناً إلى ذلك المستثمر) ويرأي سرالختم (أن السودان يعاني من هذا النوع من الرأسماليين خاصة في هذا العهد وأجد أن هذا يضر بالأقتصاد الوطني ويشوهه لأنه يرتبط بمصلحة شخصية حزبية وعقليات مغلقة).

بنظر الكثيرين فإن السياسة تتأثر في كل مكان وزمان بتدخلات المال وذلك عندما لا تبنى السياسة على قيم ومبادئ فاضلة وإنما تخضع للمصالح ولئن كان السودان قد عرف استثمار السياسة لتحصيل المال وتحقيق الثراء فالسودان لا يزال إلى حد ما بعيداً عن مخاطر تزايد نفوذ أصحاب المال على السياسة وفرض أجنادتهم بما يمثل خطورة على المجتمعات كما هو الحال في أمريكا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق