تحالف السلطان والدرويش (2)

قراءة في فتاوى فقهاء البطيخ البارد..!

عبد الحميد أحمد محمد

"فإلى متى صمتي وحولي أمـة ** يلهو بها السلطان والدرويشُ

هذا بسبحتـه وذاك بسيفــه ** وكلاهما مما تكدُ يعيشُ"

محمد إقبال

من ذكريات الإسلاميين "الحركيين" المريرة -أو الطريفة إن شئت- أيام اجتماعهم إلى التيار "السلفي الملكي" أثناء تجربة العمل الجبهوي سبعينيات القرن الماضي، أن أحدهم ممن استوعبتهم "جبهة الميثاق الإسلامي" أُوكلت إليه مهمة عملية من شأنها أن تقوده للإصطدام المباشر بالحاكم العسكري المتجبر في ذلك الزمان .. فأرجع الرجل "السلفي" البصر كرتين في عاقبة أمره ثم أعلن عن رفض قاطع للمهمة وهو يقول محتجاً: "ليه عشان يدخلوني زنزانة إتهبب فيها بالطوبة وإنتو تقعدوا بره تأكلوا البطيخ البارد..!!"

هذه هي نقطة المباينة بين جماعتين إسلاميتين الأولى تجعل من كلمة "ابن الوردي" لها دثاراً ومنهاجاً تُشاعِره في جميع حالاتها ولا تؤمن بالمواجهة مع الحاكم ناهيك عن كفاحه ومصادمته:

"دارِ جارَ الدارِ إنْ جارَ وإنْ/ لمْ تجدْ صبراً فما أحلى النقلْ

جانبِ السلطانَ واحذرْ بطشَهُ/ لا تخاصمْ مَنْ إذا قالَ فعلْ"

وهذه الطائفة هي التي دائماً ما تشاد المؤسسة الفقهية الرسمية على أعمدتها وأركانها.

والجماعة الثانية هي تيار الإسلام الحركي الذي يجد الجهاد أكبره في "كلمة حق عند سلطان جائر" ولئن كانت تلك هي نقطة المفارقة بين طائفتين بمنهجين مختلفين فإنها أهدت الآخيرين وهم يجلسون فيما بعد إلى دست الحكم ويتبوّؤون مقاعد "من إذا قال فعل" أهدتهم مفتاحاً مهماً من مفاتح توظيف المدرسة "الفقهية السلفية الملكية" واستغلالها الاستغلال الأمثل في إضفاء الشرعية على كثير من الممارسات والسياسات التي اتبعوها حيث وفرت لهم غطاءً فقهياً دينياً أذعن بموجبه كثير من العامة والبسطاء.

إستطاع (نظام الإنقاذ) في سنواته الأخيرة هذه أن يفيد من هذه المدرسة الفقهية التي لا تني تخطب وُدَ السلاطين –أياً كانوا- بمسوغات "ذي الشوكة، ووجوب السمع والطاعة "ولو ولى عليكم عبد حبشي" وعمد (الإنقاذيون) الذين أحسنوا قراءة ذلك المشهد إلى أن صنعوا جسماً أضفوا عليه صفةً (شرعية) توافرت إليه جميع خصائص وسمات المدرسة السلفية الملكية التي يجد د. الشنقيطي انها أشد خطراً من ما اسماها بـ "السلفية الفوضوية" وهي ما ينشأ مقابلاً للمدرسة الأولى كردّة فعل عليها "فتخرج على السلطة وعلى المجتمع معاً، وتسعى إلى تفجير الكون كله أملا في ميلاد عالم جديد لا تملك تصوراً واضحاً عن ملامحه."

ولعل مظاهر التشابك والتكامل بين هذين التيارين تبدو أوضح ما تكون حين نجد أن "السلفية الفوضوية" تستمد عناصر ومسوغات وجودها من نهج الأوائل العاجزين عن التفريق بين التعبير السلمي والخروج المسلح فيجعلون من الوقوف في وجه المنكرات السائدة في الدولة المسلمة فتنة وخروجاً على الطاعة بل يبيحون لحكام الجور "الضرب بيد من حديد" –بحسب تعبيرهم - على يد كل صاحب رأي معارض أو حتى ناصح مشفق.

عمدت الإنقاذ –كذلك – إلى وضع عدد من العناصر "الرخوة" من داخل كيان الإسلام الحركي داخل ما يسمى "بهيئة علماء السودان" بعد أن أعملت فيهم عوامل الترغيب والترهيب فأثقلت وزرهم بالوظائف العليا كمستشارين رئاسيين ونواباً بالبرلمان الحكومي المعين حيناً بأمر الحاكم لعقود متطاولة من الزمان فلا يألو واحدهم من بعد جهده أن يراجع المسألة الشرعية محل النظر وفق ضوابط الدين والشريعة والشواهد تقم كثيفة لحالات أطلقت فيها الفتيا على عواهنها بطريقة أقرب ما تكون إلى التحريض والإيعاز بسفك الدماء، لا يهم أحدهم أن الإجتماع موثق تتناقله قنوات التلفزة العالمية، وهذا عينه ما أوقعه عالم علامة و(حبر) فهامة إبان ملابسات قضية سياسية شهيرة فقال العالم (الحبر) الكبير من فوره وهو يستمع إلى مرافعة الحاكم "ذي الشوكة.!" الذي هو الخصم في تلك القضية دون أن يتوخى العدل والإنصاف بالإستماع إلى الطرف الآخر: "سيدي أنا لا أريد أن أدعو بدعوة زياد بن أبيه.! زياد قال: "والله لأخذن المقيم بالظاعن والصحيح بالسقيم حتى يلقى الرجل أخاه فيقول أنجو سعد فقد هلك سعيد." ومضي قائلاً: "أنا لا أدعو بهذه الدعوة ولكن لا بد أن "نضرب على أيدي هؤلاء بيد من حديد." وهو الموقف الذي خالفه فيه وبذات المجلس بعض العلمانيين ممن يتبرأ منهم العالم الجليل، وهم يطالبون بالإحتكام إلى آليات عادلة في التقاضي تمكن من أخذ المذنب بجريرته ولا تجور على برئ غير مدان.

وهكذا إمتداداً للتوظيف التركي – البريطاني للفقيه القابل للتأطر داخل المؤسسة الحكومية الرسمية أفلح (الإنقاذيون) في سنواتهم الأخيرة هذه من بعد إنفراط عقد الحركة الإسلامية المرجعية الفكرية والدينية لمشروع الإنقاذ الإسلامي انتكاسة مشروع الحكم بكامله- أفلح الإنقاذيون في خلق المؤسسات الدينية التي توفر له الغطاء الديني اللازم الذي يكفل الدعاية لموالاة الحاكم وفق المسوغات السلفية (وجوب الخضوع لذي الشوكة) وشعارات (حاكم غشوم خير من فتنة تدوم) التي انتجتها عقول الفقه "المتسلفن" المأسور إلى أغلال التقليد والماضي المتشرب بالمفاهيم السلفية القاصرة. ولئن كانت التجربة السودانية اليوم هي ذاتها تجربة المؤسسة الفقهية العثمانية التليدة فإن بعض التجديدات في مضمون الخطاب إستطاع أن يلبسها ثوب "المدرسة السلفية الملكية" كما يحلو لـ د. محمد بن المختار الشنقيطي والتي يضع لها تعريفاً يقول: ""أنها تلك المدرسة من الفقهاء التي تشرِّع لحكام الجور أفاعيلهم، وتعظ الرعية بالإذعان لهم والطاعة، وتحذر الناس من الفتنة والشقاق.." حتى لقد أفتى بعض فقهائهم بأن المظاهرات السلمية حرام، وبأن مشاهدة قناة الجزيرة "لا تليق بطالب العلم ... لأن ولي الأمر لا يحبها"!!

إذاء هذا لم يكن مستغرباً أن يأتي خطاب "المؤسسة الفقهية الرسمية" متسقاً ومتماشياً مع الخطاب الرسمي الحكومي فيما يتعلق بقضية الإستفتاء حول جنوب السودان والمآلات التي ستتمخض عن ذلك الإجراء. إلا أن خطاباً مختلفاً تبنته طائفة من (العلماء) ذوو الصلات الوثيقة بالحكومة في أعلى مستوياتها ممن أسهموا بأدوار فاعلة في حشد التأييد الشعبي للمؤتمر الوطني خلال حملته في الإنتخابات السابقة. وشنّ أثنان من (العلماء) أثناء العشر الأواخر من شهر رمضان ومن خلال خطبة عيد الفطر المبارك هجوماً ضارياً على إتفاقية السلام الشامل التي تم توقيعها بنيفاشا (2005) وبدى كأن الخطيبان ذوا التوجهات السلفية يصوبان نقداً شديداً لحكومة المؤتمر الوطني ويحملانها مسئولية التردي الأخلاقي والقيمي الذي حاق بالشعب السوداني السنوات الأخيرة إلا أن كلا الرجلين لا يلبث أن يوجه شكراً لذات الحكومة التي تقدم بنقدها ورجالاتها وهذا ما يجعلك تنظر إلى أبعد من إدعاء الرجلين الغيرة على الدين التي حاولا إظهارها.

التشابه في خطاب الرجلين إلى درجة التطابق يجعل من المرجح أن تكون جهة ما قد أعدت ومن ثم مررت تلك الكلمات من خلالهما فقد دعا كل منهما وبعبارة واحدة "إذن فاليتمزق السودان إن كان إلغاء الشريعة ثمناً لوحدته" وهذا ما يكشف عن الدور المرسوم بعناية والمراد به إيجاد تخريج مناسب للزلزال الذي لا محالة واقع وسيشق البلاد إلى نصفين، فالمؤسسة الفقهية الرسمية يراد لها أن تقول إن جنوب السودان تمت التضحية به من أجل إرساء شرع الله في شمال السودان وهذا فقط هو الخطاب الذي يتسق مع الموقف الحكومي الذي يبحث عن مبررات يواجه بها انفصال جنوب السودان.

هذا وقد ألحقت مجموعة من الفتاوى صدرت عن هيئة (علماء) السودان سمعة سيئة بمكانة العلم والعلماء ووضعتها مكان التندر لدى العامة وهم يقرأون عن بيانات تكفير الخصوم السياسيين وتحريم التصويت لمن يخالف الحاكم وحزبه الرأي. وثار لغط كثيف بين الناس إبان الإنتخابات السودانية الماضية عن رفض بعض العلماء التوقيع على بيان يحاول وضع حدود شرعية للممارسة الإنتخابية ويحظر على المسلمين التصويت لغير المسلمين ممن قال أحد المعترضين انهم وصفوا بالفجار والمجرمين في البيان المختلف عليه الشئ الذي قوبل بالرفض من بعض العقلاء داخل الهيئة الفقهية الحكومية بحجة أن الوضع السياسي الراهن بالسودان لا يحتمل هذا التوصيف.

من قبلُ كانت الهيئة المذكورة قد نجحت بالفعل في توقيع فتوى بعدم جواز سفر رئيس جمهورية السودان أعقاب مذكرة اعتقال دولية صدرت بحقه، وهو ما اعتبرته الأوساط المستنيرة تزلفاً لا يليق بمقام العلم والعلماء لا سيما بعد أن تجاوز الرئيس نفسه الفتوى فداس عليها قبل أن تطأ أقدامه البساط الأحمر وهو يعبر إلى الطائرة التي أقلته في "سفره المحرم" وفق فتوى الهيئة الشرعية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق