تحالف السلطان والدرويش (1)

المؤسسة الفقهية الرسمية.. التوظيف السياسي للدين

عبد الحميد أحمد محمد

"فإلى متى صمتي وحولي أمـة ** يلهو بها السلطان والدرويشُ

هذا بسبحتـه وذاك بسيفــه ** وكلاهما مما تكدُ يعيشُ"

محمد إقبال

ذهب د. النور حمد في سفره القيّم (مهارب المبدعين- قراءة في السير والنصوص السودانية) إلى القول بأن المزاج الديني السوداني دهر ما قبل دخول التركية إلى السودان كان يمالئ ويميل إلى التدين "الصوفي الشعبي" وأنّ ثمة تغيير طرأ على هذا المزاج العام جراء التغييرات السياسية التي حملها الفتح التركي للسودان الذي أدخل إلى السودان لأول مرة "المؤسسة الفقهية العثمانية" التي جاءت بعلمائها وفقهائها جنباً إلى جنب الجيش الغازي –ولكل سلاحه ودوره.

وقد نجح د. النور حمد من خلال قراءة كثيفة لتلك الوقائع في بلورة الرؤية التي ظلت تتبناها قبائل من اليسار السياسي السوداني الذي يبدو أنه يكن إعجاباً خاصاً (للقوم) أهل الطريق من المتصوفة إذ أن أكثر ما يستخدم عندهم للتدليل على انحياز المزاج الشعبي للمتصوفة مجانباً لمواقف الفقهاء من أهل العلم الشرعي قصة الشيخ محمد الهميم مع القاضي دشين. ونقل ود ضيف الله في طبقاته: "أن قاضي الشريعة دشين أنكر على الشيخ الهميم جمعه بين الأختين حين قدم وحضر صلاة الجمعة بأربجي ، فلما أراد الخروج من الجامع قبض دشين لجام الفرس وقال له: خمست وسدست وسبعت في الناس ما كفاك حتى جمعت بين الأختين، فقال له الهميم: ما تريد بذلك؟ قال: أريد أن أفسخ نكاحك، لأنك خالفت كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال له: الرسول أذن لي، والشيخ إدريس يعلم ذلك، وكان الشيخ إدريس حاضراً فقال الشيخ إدريس لدشين: أترك أمره وخل بينه وبين ربه. فقال دشين: ما بهمّل أمره، وقد فسخت نكاحه. فقال الشيخ الهميم لدشين: يفسخ جلدك. فيقال أنه مرض مرضاً شديداً حتى تفسخ جلده."

ويجد معاشر اليساريين متعة شديدة في الإستدلال بالقصة إذ أنهم يرونها تعبّر عن أن المزاج الشعبي العام السائد في ذلك الحين والمناوئ للفقهاء من علماء الشريعة هو ما جعل (الأسطورة) تنتصر للشيخ الهميم –ظالماً- مهما كان مخالفاً لظاهر الشريعة ومهما بدى موقف القاضي دشين صائباً متسقاً مع أحكام الشريعة الإسلامية والنصوص القرآنية التي تحرم الجمع بين الأختين إلا ما قد سلف! المهم أن الخيال الشعبي أكمل القصة بأن القاضي دشيناً قد تفسّخ جلده جراء تصديه لشطحات الهميم شيخ الطريقة ومعدن الحقيقة حامل أسرار الشيخ تاج الدين البهاري!

وفيما بدى لي –على قلة نظري غفر الله لي- أن أفتتان العامة من البسطاء بمشايخ الصوفية في ذلك الزمان كون هؤلاء (القوم) قد درجوا على الإتيان بالكرامات وخوارق الأفعال مما لم يكن مألوفاً ولا متاحاً لعلماء الشريعة وهذا ما جعل شيخ الطريقة في نظر العامة أعلى كعباً في الدين وأشد بريقاً من الفقيه الذي ذهب في إتجاه تحصيل العلم الشرعي. وهذا عينه ما جعل الشيخ حمد النحلان الذي بدأ فقيهاً هاجر إلى (مويس) وقرأ مختصر خليل على الفقية محمد ود التنقار ينكص على عقبيه "ويفارق خليل إلى يوم الدين!" ثم يتنحل مذهب المتصوفة. وذاك كما أورد ود ضيف الله في طبقاته: "أن الشيخ حمد النحلان بعد أن عاد من دراسته الفقه وجد أن أخاه "ننه ود الترابي" قطع شوطاً طويلاً في سلك الصوفية وقد رأه النحلان بأم عينه بالهوي "يقذف عصاه من وراء البحر فيطرد عجولاً قد إجتمعت بالضفة الشرقية للنيل على (قش) له تأكله، إلا أن الصدمة التي تلقاها النحلان ومثلت النقطة الفارقة في حياته وانقلابه من تدريس الفقه والعلوم الشرعية إلى التصوف وسلوك الطريق كانت عند مدّ الشيخ "ننه ود الترابي" يده إلى ما وراء البحر فأعاد عصاه التي قذفها! هنا فقط قال النحلان: "سبحان الله لأخي هذا الخير كله وأنا ضيعت عمري في خليل.!.. أنا وخليل إفترقنا إلى يوم الدين." فمنذ ذلك الوقت إشتغل بالطريق وتم له الإجتماع بالسيد الخضر عليه السلام.!

يحمل د. النور حمد على التركية انها جاءت إلى السودان بفقهائها ووعاظها فأدخلت شكلاً جديداً من الدين "المؤسسي الرسمي" وهذه حقيقة تثبتها وقائع التاريخ إذ إصطحبت حملة الفتح عدداً من الفقهاء بمذاهب مختلفة ليسوّقوا وسط السودانيين الخضوع للجيش الغازي وإذ أعبنا على محمد علي باشا توظيف الدين لخدمة السياسة على ذلك النحو فإنه كذلك لا يعسنا إلا أن نعيب على أولئك العلماء قبولهم أن يكونوا أداة في يد الجيش الغازي ليقنعوا الناس بالخضوع للحكم الأجنبي ويزينوا لهم ذلك بأغلفة دينية وهذا هو المأخذ الذي يثبته د. محمد سعيد القدال في تعليقه على تلك الواقعة.

ومايزال العهد التركي يحمل وزره ووزر من عمل بسُنته في تأطير الدين في شكل مؤسسي رسمي وإنتاج علماء وفقهاء سلطان لا شغل لهم سوى إضفاء الأصباغ الدينية على كل ما وافق شهوة الفرعون الحاكم وجارى هواه ولهذا الغرض عينه يرى الأستاذ أبو القاسم حاج حمد أن البريطانيون كما عملوا على إنشاء مدارس توفر للإدارة الإستعمارية ما تحتاجه من موظفين وكوادر وسيطة، كذلك فقد عملوا على إنشاء (مؤسسة دينية) تخرج علماء وفقهاء يدعمون السلطة القائمة. يقول حاج حمد: "ولهذا الغرض أنشات الإدارة الإستعمارية في عام (1902) مجلساً مقره جامع أم درمان أطلقت عليه (لجنة العلماء) وذلك بهدف تركيز فكر سني معارض للصوفية وداعم لمركز علماء الفقه والسنة كغطاء ديني للسلطة البريطانية."

ربما من غير العادل تعميم الحكم بوقوع جميع الفقهاء وعلماء الشريعة تحت طائلة الإستغلال والتوظيف السياسي عبر الحقب المختلفة حيث أن هناك شواهد في التأريخ الإسلامي تنهض مبينة أن هنالك كثير من علماء الشريعة صدعوا بكلمة الحق في وجوه سلاطين الجور غير هيابين من أمثال العالم الجليل سعيد بن جبير آخر من قتل الحجاج بن يوسف، وموقف الإمام أحمد بن حنبل من الخليفة المأمون في قضية خلق القرآن. ولن يعجزنا أن نجد بين الفقهاء والعلماء السودانيين من استنكف عن أن يكون أداة في أيدي الحكام بل كانوا قوامين بالقسط شهداء لله والحق. ولهذا فقد لا تتفق مع القول بأن ذات المؤسسة الفقهية الرسمية هذه التي وفدت مع الأتراك وقواها ودعّمها البريطانيون في السودان هي ذاتها التي "تمكنت واستوطنت حتى انتصرت على مكونات الثقافة السودانية.. حتى غدا الفقيه هو الدولة نفسها..." ولا أعتقد أن هذا التيار "هو الذي عمل على تغيير المزاج الديني وسط السودانيين وهو الذي مهد الطريق لحركة الإخوان المسلمين لتصل إلى السلطة.." تلك كانت جولة لتيار آخر لا يمتد بصلة لذلك الحراك وتلك كرّة أخرى وعمل دؤوب متواصل وجهود في ميادين مختلفة مهدت كلها لصحوة إسلامية كانت تبتغي أن توجه الحياة كلها لله لا تفصل بين السياسة والدين في خلاويه كما يفعل خطأ المتصوفة ولا توظف الدين لخدمة السياسة كما يفعل أصحاب المؤسسة الفقهية الرسمية الذين لا يمكن ان ينالوا شرف المآل الأخير من وصول الحركة الإسلامية السودانية لسدة الحكم، وما ينبغي لهم وما يستطيعون.

غداً نكمل.. إن أحيانا الله وكانت في العمر بقية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق