محمد وقيع الله.. أقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي (2)

عبد الحميد أحمد محمد

كنا قد أشرنا في مقالنا السابق إلى أن محمد وقيع الله ظل معتزلاً في منافاه الإختياري بمجاهل أمريكا لسنوات تعادل عمر الإنقاذ وهو بذلك يبقى خارج فعل الحركة الإسلامية غير شاهد على تصريف شئون دولتها التي بناها الشيوخ الصالحون والشباب المجاهدون المتجردون المتوثبون للشهادة في كل حين غير قاعدين ولا متولين يوم الزحف لائذين بالمنافي وراء البحار.

ولم يعد وقيع الله إلا بعد أن تمايزت صفوف الحركة الإسلامية وتفارقت فرقاناً بيّناً بين أهل القرآن وأهل السلطان، لم يحضر الرجل شيئاً من ذلك المخاض العسير الذي كابده الناس. ولكن ظهر فجأة وقد ركب موجة المؤتمر (الوطني!) وأصبح يدلو بدلوه في الخلاف ويجادل في حيثياته بغير علمٍ ولا هدىً ولا كتاب منير. ثم ينتهج أقذر الطرق وأحطها ويلجأ إلى تحويل الخلاف في الرأي والأفكار إلى حرب لا يتورع أن يستخدم فيها أدوات التكفير ورمي الخصوم بالذندقة والضلال وهي سنة درج عليها كثير من أهل الإسلام التقليدي.

والأستاذ الكبير د.عبد الصبور شاهين أحد أهم مترجمي مالك بن نبي لا تلبث أن تدفعه المنافسة على المناصب الإدارية في جامعة القاهرة مع د.نصر حامد أبو زيد إلى توقيف هذا الأخير في محاكم الردة عن الإسلام وما تبع ذلك من تطليق زوجته التي لم تر في القضية إلا هراءً وسخفاً.

+وشاهين بذلك ينجح في أن يجعل من د.نصر أبو زيد لاجئ تتلقفه المعاهد والجامعات الغربية وتفتح له منابرها بعد أن إجتاحته فوضى الهوس الديني وساقته سوقاً إلى الفتنة وجعلته فريسة سهلة لمناهج الفكر اللاديني الذي لا يؤمن بالغيب ولا يعترف بالوحي!.وكان الأجدى أن يستمر أستاذاً جامعياً وباحثاً مرموقاً في إعادة تقديم كثير من العلوم التقليدية التي تستعصي على القارئ البسيط خاصة إذا كان طالباً جامعياً وذاك هو الإجتهاد الذي كان يواليه نصر في كتبه ومحاضراته!

+ ومحمد وقيع الله شأنه شأن شاهين رغم بعد الشقة بينهما – وقد دفعت حكومة السودان بوقيع الله إلى أرقي الجامعات الأمريكية ليتعلم ويستنير ويعود بالفائدة على البلاد- ولكنه ويا للأسف ظل متهرباً من دفع إستحقاقات منحته- وقد وجدت فيه الثقافة الإسلامية التقليدية بمعاركها المفتعلة بين أهل السنة والجماعة والجميع وبين السنة والشيعة وجدت فيه نفساً مريضة قابلة للإشتعال بالحسد والغرض كجارات هند صاحبة عمر بن أبي ربيعة الذي عرَض بشهادتهن في كلمته السائرة:

حسداً حملنه من عندها / وقديماً كان في الناس الحسد.

وارتباط غريب بين وقيع الله والتيار الوهابي يبدأ بعد أن أصبغ هؤلاء على الرجل الجوائز النفيسة لأكثر من مرة ليصبح رافداً يمد هذا ويدفعه إلى الفجور في الخصومة وبث السم الزعاف عبر مقالاته التي ينشرها في الصحف السيارة ووسائل الإعلام العصرية التي أنتجتها عبقرية الغرب (الكافر) مثل الإنترنت وتبني مفاهيم ذلك التيار (المتسلفن) بالكامل إلى درجة إستعمال لغته المتقعرة المتحجرة من شاكلة (شيخي وسندي!)

ونعود نطلع على سيل الكتابات التي (يسود) بها وقيع الله صفحات الصحافة فنجد آثار الفجور في الخصومة والخروج بالخلاف الفكري عن سياقه إلى ميادين التكفير والتضليل واضحاً لا يكاد يخفى على ذي عينين وهو ما يجعله "َكالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً" وهو القائل من قبل في حديثه للصحافة: " وأستطيع أن أقول في هذا المنحى أن ركون بعض المثقفين السودانيين والصحافيين منهم خاصة وكتاب الأعمدة على الأخص، إلى النقد الجارف وإدمان إنتقاد الآخرين نقداً سلبياً مدمراً، وانتقاص جهود الخصوم لا يمثل عملاًً طيباً، ولا يفيد البلاد بشئ. والأجدى من ذلك، النظر المتوازن والحديث عن جانبي الكوب الفارغ منهما والملئ..!!" صحيفة الصحافة(29-10-2006)

ومن هنا تبقى شهادته حول الآراء الفقهية للشيخ الترابي مجروحة ومردودةً مهما حاول القول أنه يصدر عن موقف علمي وموضوعي ومهما أدعى غيرةً على الدين والإسلام رافعاً شعارات الذود عن حماه وبيضته، فقد شابت مواقف الرجل لوثة الإنتهازية والجنوح نحو استخدام آراء الشيخ للحرب السياسية عليه وعلى المؤتمر الشعبي وهو اتجاه بدأه وحرّض عليه وتولى كبره المؤتمر الوطني الذي وجد في وقيع الله فريسة سهلة بدواعي الغرض والمرض فسرعان ما استوعبه اداة في حربه القذرة ضد الشيخ والمؤتمر الشعبي.

إن وقيع الله الذي أقام طويلاً بأمريكا لم يجني من الفائدة ما جنى الشاب المثابر النابه محمد المختار الشنقيطي الذي أعد بحثاً قيماً بعنوان "آراء الترابي من غير تكفير ولا تشهير" فجلى كثيراً من تدليس أهل الأغراض ممن يحملون على الشيخ الترابي ولم ينس أن يثبت أنه لم يلتق د.الترابي قط ولا وطئت قدمه أرض السودان، وقد أكد كذلك أن هدف بحثه ذاك هو دفع داء التكفير والتشهير الذي يستسهله البعض اليوم ، والحث على أخذ المسائل الشرعية بمأخذ الجد دون تعجل والعودة إلى منهج العلم والعدل وحسن الظن بأهل العلم.

هذا موقف رجل حر يقيم في بلاد حرة. وهو عدل منصف لم يمسه شيطان الغرض والمرض الذي تلبس وقيع الله فعاد يقول في الشيخ الترابي ما كان يراه بالأمس خطرفات موتورين وتخرصات حاقدين! لقد كتب وقيع الله يوماً رسالةً بعنوان "التجديد. الرأي والرأي الآخر" وإن كانت قليلة الفائدة إلا أنه شن فيها هجوماً كاسحاً على أعداء الشيخ الترابي ورماهم بأقذع العبارات ودافع عن كل آراء الترابي دفاع المستميت حتى أنه قال في مقدمة ذلك الكتاب: "كنت في صيف 1986م قد شرعت أرد الشبهات وأقاويل الإرجاف التي ثارت مع حمى الإنتخابات السياسية، التي كان وقودها خطب السياسيين، ومن ستعانوا بهم من الدعاة المتعصبين. فكتبت في صيحفة ألوان الغراء مقالاً بعنوان ((جلاء الشبهات الضبابية. عن الفتاوي الترابية))!! رددت به على الشيخ الطحان بعض ما كذب به على الشيخ الترابي وكنت بأمل ان أكتب مقالاً آخر أناقش فيها فكرة التجديد وتهجم متعصبة الدعوة عليها .. إلا أن أحد مشائخ الحركة الإسلامية وهو الشيخ أحمد محجوب حاج نور كان له رأي آخر وهو ألا ننشغل في معركة الإنتخابات الشاملة التي ستقرر جانباً من مصير العمل الإسلامي بهذه الإختلافات التي ينشغل بها دعاة الفروع وهواة الجدل الفقهي .. وقد استجبت لرأي الشيخ حاج نور على مضض) !! (د. محمد وقيع الله : التجديد الرأي والرأي الآخر . الخرطوم : المركز القومي للانتاج الإعلامي ص 2-3 ).

واليوم يقول وقيع الله أنه بصدد إصدار كتاب عن الشيخ الترابي بين مرحلتين، مرحلة عبقرية بناء الدولة والحركة ومرحلة عبقرية الهدم للمشروع الإسلامي.

ولكن وقيع الله فقد أهم ما يؤهله لذاك العمل بعد أن فقد العدالة وأقام الحجة على نفسه ومن خلال كتاباته السابقة التي هي أصلح ما يكون لنقض كتاباته اللاحقة، وليس لنا أن نتوقع من كتاب محمد وقيع الله الذي يبشر به إلا مزيداً من المعارك مع طواحين الهواء متسربلاً هذه المرة بخِرق المؤتمر الوطني البالية التي تفوح منها روائح الرغبة والرهبة.

يشبه وقيع الله كذلك في مواقفه هذه من قطيع سلفه الطالح من أئمة الحقد والحسد (جعفر شيخ إدريس) – طائرة البطريق– الذي ظل منذ منتصف الستينات يشتوي بنيران نفسه الحاقدة، يعود من مهجره في كل عام يدبج مقالات الشتيمة ومحاضرات الهراء والتكفير التي لم تقتل ذبابة ويعود بها إلى مجامع (البترو– ريال) لينال بها جائزة وعطية ليأتي وقيع الله يخلع عليه الألقاب الفارغة إلا من فكر وهابي بئيس (شيخي وسيدي وسندي ومولاي...) وقد ترك كلاهما سعة الحركة الإسلامية الحديثة ليرتكس في ضيق الوهابية الكاسدة، وما أبعد كلاهما عن موقف المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي كان يتشوق للهجرة إلى الجزيرة العربية مع أسرته عندما رأي آل وسراب الحركة الوهابية الكذوب فحسبه ماءً ومنهجاً متحرراً من هيمنة الغرب ومن الأفكار التقليدية إلا أنه عندما جاءه لم يجده شيئاً. فعاد في منتصف الستينات وهو في طريقه لأداء الحج يغض بصره عن لافتة في مدينة جدة مكتوب عليها (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ذلك أنها ذكرته ما لحق بالوهابية من نفاق ورياء وهي تمالئ نظام ملكي وراثي مغلق لم يتح لشعبه ما أتاحته أنظمة الإستبداد الأخرى في المنطقة من تجارب محدودة ولو في انتخاب المجالس التشريعية والمحلية.

والملاحظة الأخرى في كتابات وقيع الله التي يجب ألا نغادر حتى نثبتها ونؤكد عليها هي حقيقة أنه قضى ما يقارب العشرين عاماً في (منفاه الإختياري) بأمريكا بعيداً عما يجري في الواقع اليومي للحركة الإسلامية وما يوازي عمراً مديداً (لثورته التي أحب أخيراً) بعد أن زهد فيها أولئك الذين لهم "إرث من الحكمة والحِلم وحُبِ الآخرين وولاءُ حينما يكذبُ أهليه الأمين ولهم في خدمة الشعب عَرَق"

فجاء الرجل العُصابي ليشهد بما لم يشهد ولم ير. فحتى مواقفه السياسية وأدعائه حب الإنقاذ والدفاع عنها تبدو باردة مفتعلة غير صادقة وهي إلى الإملاء والتحريض أقرب ما تكون.

والأستاذة رباح الصادق – أحد من أنكروا منكرات وقيع الله - تعطينا توصيفاً دقيقاً لحاله: " إن وقيع الله شاهد ما شافش حاجة"!. ولئن كنا اعتقدنا أن وقيع الله لم ير ما كان عنه يتحدث، فإننا نؤكد اليوم أنه لم يسمع أو يقرأ ببصره قبل البصيرة الذي عليه يرد."

وهكذا مكباً على وجهه خاض محمد وقيع الله مع الخائضين (مؤتمراً وطنياً) متحمساً ضد الشعبي رغم أنه لم يكن طرفاً في الصراع ولم يقف على أي من منابره ولم يذكر اسمه ضمن عشرة آلاف وقفوا في دار المؤتمر الوطني يرسمون عهداً جديداً لمسيرة الحركة الإسلامية ضد السماسرة الذين تسلقوا مركبتها واختطفوا مقودها، فلم يكن المدعو محمد وقيع الله شيئاً مذكوراً من كل ذلك ومع ذلك يقف اليوم رافعاً راية العدوان والتعبيئة ضد الشعبي بصورة تجعله أشد كاثوليكية من الكاثوليك. لقد إستغل أبالسة المؤتمر الوطني حالة الرغبة والرهبة التي تلبّست (الرجل) فجعلوه بيدقاً في حربهم القذرة ضد الشعبي، وما أشهي مقارعة طواحين الهواء (لدون كيشوت) القادم هذه المرة من مجاهل المسيسبي.

إنّ 99% من أعضاء المؤتمر الشعبي وقياداته لا يعرفون محمد وقيع الله ولم يسمعوا باسمه، لا في خير ولا في شر، والقلة التي ذكرته لا تعرف إلا أن اسمه كان يظهر ضمن كتاب صحيفة الراية (1985-1989م).

والحق أيضاً أن الشعبي لقي وما يزال يلقى من الكتاب المهووسين والمأجورين، فأنظر أين يمكن أن نضع وقيع الله؟ مع (بلعم باعوراء) ذاك الذي دشّن ارتهانه للباطل بحلقة تلفزيونية عن الشيخ الترابي يعبث فيها بصورته أم مع الذين هم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء مذبذبين بين ذلك. وكلهم لا يضرون إلا أذى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق